كان أمراً مثيراً للدهشة أن يقف أولمرت رئيس وزراء إسرائيل قبيل انعقاد مؤتمر أنابوليس، لكي يطالب الفلسطينيين خصوصاً والعرب عموماً بأن يقروا ويعترفوا علانية بأن إسرائيل دولة يهودية!

وجاء الرفض الفلسطيني لهذه الفكرة سريعاً على لسان محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية. وذلك على أساس أن هذا الاعتراف من شأنه أن يلغي حق العودة للفلسطينيين في المهجر، كما أنه قد يؤثر على حقوق الفلسطينيين الذين بقوا في إسرائيل بعد إنشاء الدولة عام 1948.

ترى ما الذي دفع أولمرت ومن يمثلهم في المجتمع السياسي الإسرائيلي الى التأكيد على يهودية الدولة في هذه اللحظة التاريخية، التي يبدو فيها أن اسرائيل والسلطة الفلسطينية على مشارف الاتفاق على تأسيس دولة فلسطينية تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل؟

هل هو القلق على مصير اسرائيل على المدى التاريخي الطويل، وضعاً في الاعتبار اختلال الميزان الديموغرافي بين الفلسطينيين والإسرائيليين لصالح الشعب الفلسطيني، الذي يزيد معدل ازدياد السكان لديه كثيراً عن هذا المعدل في اسرائيل؟

وهل الاحتماء بيهودية الدولة من شأنه أن يفرز سياسات عنصرية تميز تمييزاً واضحاً بين الإسرائيليين والفلسطينيين الذين يطلق عليهم عرب فلسطين، وكذلك بينهم وبين المواطنين الفلسطينيين في الدولة الفلسطينية، التي ستنشأ لو نجح مؤتمر أنابوليس في الوصول إلى اتفاق واضح بهذا الصدد؟

الواقع أن التأكيد على يهودية دولة إسرائيل يتعارض مع تيار أيديولوجي وسياسي تبلور في العقود الأخيرة تحت شعار «ما بعد الصهيونية». وهذه الحركة التي تضم مؤرخين ومثقفين وسياسيين إسرائيليين، ترى أن الصهيونية كأيديولوجية حققت أهدافها الرئيسية، التي تتمثل في إنشاء دولة إسرائيل عام 1948.

ويرى أنصار هذه الحركة أن إسرائيل عليها أن تطرح عبارة أنها دولة الشعب اليهودي، وعليها أن تسعى لكي تكون دولة ديموقراطية تسع كل مواطنيها، عرباً كانوا أو يهوداً في ظل قيم التعددية الديموقراطية. وإن كان أنصار هذه الحركة يختلفون حول عديد من النقاط وأهمها الموقف من حق العودة، الذي يطالب به الفلسطينيون.

وأياً كان الأمر فإن العديد من الباحثين الإسرائيليين يربطون بين حركة ما بعد الصهيونية وبين جهود «المؤرخين الإسرائيليين الجدد»، الذين خاضوا في الأرشيف السري للدولة الإسرائيلية بعد أن رفع عنه حظر الإطلاع، والذي تضمن وقائع تاريخية متعددة، حول المجازر التي قامت بها العصابات الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني لدفعه دفعاً إلى الهجرة خارج فلسطين، بالإضافة إلى المحاولات المنظمة لاقتلاع مجموعات عديدة من الشعب الفلسطيني من قراهم وبلادهم، والاستيلاء بالقوة على أراضيهم ومنحها للمستعمرين اليهود.

ونحتاج إلى أن نؤصل ظاهرة «حركة ما بعد الصهيونية» وما أثارته في المجتمع الإسرائيلي من صراعات أيديولوجية شتى، بين من يوافقون على أطروحاتها، وأولئك الذين يعترضون عليها بشدة، لأن القبول بها معناه - ببساطة - في نظرهم، تصفية الدولة الإسرائيلية ذاتها.

ورغم أن رواد حركة «ما بعد الصهيونية» ينتمون أساساً إلى النخبة الأكاديمية والفكرية الإسرائيلية، إلا أنها استطاعت أن تؤثر على الوعي الاجتماعي الإسرائيلي عموماً. وتراوحت ردود الأفعال إزاءها. فالبعض رأى أنها تهدف إلى نزع الطابع اليهودي عن الدولة، والبعض الآخر اعتقد أن الغرض منها تجديد شباب الصهيونية كأيديولوجية، حتى تتكيف مع أحوال العالم المعاصر في بداية الألفية الثالثة، وأخيراً هناك من اعتقد أنها دعوة طارئة لن يكتب لها الاستمرار.

وبغض النظر عن هذه الرؤى المختلفة لحركة «ما بعد الصهيونية»، ورغم أنها تسود في دوائر ثقافية وأكاديمية محدودة، إلا أنها أدت إلى نشوء حركة فكرية معارضة لها، لأن هؤلاء المعارضين أحسوا بأن أفكارها يمكن أن تنفذ إلى عموم الإسرائيليين، وهنا يكمن الخطر - في نظرهم - لأنها يمكن أن تؤثر على الاتجاهات والسلوك في مجال التشريع، وفي السياسات التعليمية، وفي التوجهات السياسية.

ويبقى السؤال الذي يطرحه عدد من الباحثين الإسرائيليين: ما هي المكونات الأساسية لفكر حركة «ما بعد الصهيونية»؟ للإجابة على هذا السؤال المحوري ترى بعض الدراسات النقدية أن هذه الحركة تنطوي على ثلاثة اتجاهات فكرية. الاتجاه الأول يرى أنه بإنشاء الدولة الإسرائيلية عام 1948 فإن هدف الصهيونية يعتبر انه قد تحقق. وترى الحركة أنه آن الأوان لبداية مرحلة جديدة في تاريخ الدولة يتم فيه تطبيع الآليات الداخلية والخارجية للبنية الصهيونية. والاتجاه الثاني يرى أنه بمعايير ما بعد الحداثة السائدة الآن في الغرب، فإن الصهيونية باعتبارها حركة قومية تعتبر حركة فات أوانها، لأنها عاجزة عن الاستجابة لتحديات الحاضر.

والاتجاه الثالث وهو أخطر الاتجاهات قاطبة لأنه يركز على أن الصهيونية منذ نشأتها الأولى كانت في طبيعتها الأصلية حركة استعمارية، لم تستطع أن تقدم حلاً لمشكلة استيطان المهاجرين اليهود في أراض فلسطينية. وهي مسؤولة بالقطع عن عديد من المظالم التي أوقعتها حركات الاستيطان اليهودي أولاً ثم الإجراءات التعسفية للدولة الإسرائيلية ذاتها التي نشأت عام 1948 والتي وجهت ضد الشعب الفلسطيني، والتي أدت من ثم إلى تشويه صورة اليهود في العالم. ومن هنا ترى الحركة أنه آن الأوان لانتهاج طريق آخر على الدولة الإسرائيلية أن تتبعه، إذا أرادت أن ترقى إلى مستوى المفاهيم والمدركات لحركة ما بعد الحداثة الغربية، التي من توجهاتها الأساسية التركيز على الأفراد باعتبارهم مواطنين في الدولة أيا كانت أصولهم، وتجاوز مفاهيم القومية القديمة.

ولعل هذه الملاحظة تدعونا إلى التساؤل حول ما يربط حركة ما بعد الصهيونية في إسرائيل بحركة ما بعد الحداثة في الغرب. يمكن القول إن حركة ما بعد الحداثة نشأت في الغرب بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، وبداية عصر الإعمار المادي للبلاد الأوروبية التي هدمتها الحرب، بالإضافة إلى بزوغ حركة التجديد الفكري والمعرفي.

شهدت أوروبا قبل الحرب حركات أحادية الجانب مثل الاشتراكية والشيوعية والفاشية والقومية الليبرالية والقومية الفاشية. وهذه الايديولوجيات أفرزت نظماً سياسية متصارعة أدت في النهاية إلى انفجار الحرب العالمية الثانية. وتهاوت هذه الايديولوجيات كافة بعد انتصار دول الحلفاء على دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان). ومن هنا انبعثت أفكار «ما بعد الحداثة» من قلب حملة النقد العنيفة التي وجهت، ليس فقط لهذه المذاهب المتهاوية، بل لفكرة الأيديولوجية ذاتها بحسبانها نسقاً مترابطاً من القيم يراد منه تنشئة أفراد مجتمع كامل في ضوئها، مهما كانت أحادية الجانب، أو متطرفة، أو حتى مضادة للتاريخ، على أساس زعم كل منها أنها هي وليست غيرها التي ستحقق «اليوتوبيا» أو بعبارة أخرى «المدينة الفاضلة»!

وبنت النخبة الفكرية والسياسية في الدول الغربية المنتصرة، بدلاً من هذه الأيديولوجيات، اتجاهات براغماتية عملية ركزت على التنمية بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية، من دون الزعم أنها تقدم ايديولوجية بديلة عن تلك التي تهاوت أو أنها ستؤسس يوتوبيا جديدة.

ومن هنا لتحقيق التقدم تم التركيز على البحث العلمي والإبداع التكنولوجي وتطوير نظم الاتصالات وتحديث التنظيم والإدارة، وعلى ذلك أصبح هناك أساسان للتقدم: الإنتاج وتطوير قطاع الخدمات، وذلك لترقية الوضع الإنساني.

إن حركة «ما بعد الحداثة» في اتجاهها التقدمي تهدف إلى القضاء على البنى الشمولية في السياسة والاقتصاد والثقافة، بالإضافة إلى أنها تنزع إلى تحرير الفرد من القيود الجسيمة التي فرضتها عليه الاتجاهات القومية المتشددة كالصهيونية المتطرفة.

ومن ثم فإن عملية إحياء الفرد في ظل ما بعد الحداثة الغربية تتشابه مع دعوة «ما بعد الصهيونية» في الدعوة إلى فك عرى ارتباط الإسرائيليين بأيديولوجية وصلت إلى منتهاها، وفتح الطريق أمام تأسيس دولة ليبرالية ديموقراطية لا تميز بين مواطنيها على أساس أصولهم العرقية.

حلم مستقبلي، أم مشروع واقعي يستحق النضال من أجله من قبل الشعب الفلسطيني والشعب الإسرائيلي على السواء؟ سؤال سيجيب عنه التاريخ القريب!

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)