من غرائب الأمور أن تغطي انتخابات منطقة المتن الشمالي على ما عداها من أحداث، حتى على انتخابات بيروت.

الإعلام الغربي أبدى اهتماما لافتا حول هذا الموضوع، وغيب ما جرى في بيروت، وهو أمر يبدو طبيعيا فما جرى في بيروت لا يعدو مسرحية فكاهية بممثلين هواة، ولا أحد يستطيع إخفاء طبيعتها الهزلية. المثير الوحيد للغرابة فيها هم الممثلون- المشاهدون- المشاركون وحماسهم لمسرحية هم فيها الممثل والمشاهد الوحيد.

لكن الاهتمام الغربي بما حصل في المتن الشمالي لا يثير الكثير من الغرابة، فالمعركة رغم أنها تجري على مقعد واحد في دائرة صغيرة من دوائر جبل لبنان، إلا أنها كانت تحمل في رمزيتها وفي نتائجها كل معاني الصراع التاريخي على لبنان ولأجل لبنان فمعركة المتن الشمالي التي خاضها الحزب السوري القومي الاجتماعي ضد القوى الطائفية والانعزالية أبان الحرب الأهلية اللبنانية دفنت مشروع تقسيم لبنان وإقامة دويلات طائفية صغيرة عليه.

اليوم تعود الأمور إلى طبيعتها الأولى حيث خيضت في المتن الشمالي معركة وحدة لبنان وسيادته واستقراره الاجتماعي ضد قوى الارتهان والتقوقع والعصبيات الدينية والمذهبية المتحالفة.

فالمعركة لم تكن لتبدو هكذا لولا ما طرحته قوى التمذهب والتقوقع من شعارات.

ولم يكن فوز مرشح التيار الوطني الحر ليأخذ هذا المنحى الوطني والقومي العام لولا ذهاب المتمذهبين والمتطيفين بعيدا.

كان الأمر يبدو عاديا وخيارا محليا ضيقا، لكن من حظ الدكتور كميل ألخوري أن يكون فوزه تعبيرا واضحا عن تحذر الحس الوطني العام في نفوس المتنيين ودفنا نهائيا لصورة الانعزال في المتن الشمالي وعودة صارخة للمارونية الأصيلة كامتداد تاريخي وثقافي لهذا الشرق الذي انطلقت منه متمردة عربية سريانية.

وليصبح الدكتور كميل ألخوري المغمور سياسيا واجهة لخروج الموارنة من تاريخ حاول كثيرون منهم تزويره وتحريفه خدمة لأغراضهم ومنافعهم وتحالفاتهم الدولية. وليصبح كذلك نائبا عن كل لبنان وشعبه.

وكان يبدو لي طبيعيا أن تنتهي المارونية الانعزالية على يد أبناء المتن الشمالي، من حيث بدأت، وهنا تكمن أيضا رمزية الانتصار.

فالذين راهنوا على القول أن أي ماروني يتحالف مع المقاومة ضد إسرائيل يسقط من حسابات الموارنة قد خسروا رهانهم وها هو المتن الشمالي يؤكد ذلك.

والذين راهنوا أن القيادات التقليدية العتيقة في الموارنة قيادات لا تهزم وتتوارث سلطتها على الموارنة في لبنان قد خسروا رهانهم بعد أن زجوا بهذه القيادات في مواجهة شبابها بدل أن تبقى بعيدة عن "الفرعيات" لكن يبدو أن الشيخ أمين الجميل يعرف أنها ليست معركة فرعية بل هي كما هي أصل المعارك.

يقولون في جبل لبنان "غلطة الشاطر بألف" وهذا ما حصل فمع كل الاحترام للشيخ أمين الجميل فأن خطأه الأساسي أنه قبل إن يكون هو في واجهة الهزيمة وأن يستعيد ما أورثه للشهيد بدل أن يكون هذا الميراث من نصيب أبناء المتن الشباب.

لقد كان الشيخ أمين الجميل بغنى عن هذه النهاية السياسية في المتن الشمالي وبغنى عن الإفصاح عن حقيقة نظرته للبنية اللبنانية عندما تحدث عن الأرمن كوافدين وطارئين وغرباء، الأمر فاجأ الجميع، إلا نخبة تعرف أن هذا الفكر السياسي الذي حكم لبنان كطوائف ومذاهب لا بد أن يحمل في طياته تقسيمات أخرى تظهر عندما تدعو الحاجة.

وليس دفاعا عن خط سياسي انتهجه حزب الطاشناق بل عن حق تاريخي لكل مكونات شعب لبنان. والأكثر عجبا هو أن الشيخ أمين الجميل كان رئيسا للجمهورية ولكل اللبنانيين وكان رئيسا ناجحا في فترة عصيبة من تاريخ لبنان فهل فكر مرة بالمسألة الأرمينية في لبنان وكل اللبنانيين أرمن وغير أرمن يفكرون بالمسألة الأرمينية ككارثة إنسانية في بداية القرن الماضي.

هنا أيضا بدا فوز مرشح التيار الوطني الحر انتصارا لأبناء المتن الشمالي على هذا النمط من التفكير.

الالتفاف الشعبي حول الدكتور كميل ألخوري في المتن الشمالي من قبل حلفاء سوريا وهو الذي كان رمزا لمناهضة الوجود السوري في لبنان دليل على تطور في الرؤى رآه المتنيون ولم يره الانعزاليون. وهذه سنة التطور عند الذين ينظرون إلى الأمام إلى المستقبل الحقيقي للشعب والأمة.

من حق الخاسر أن يقرأ خسارته كانتصار كما فعل السيد سمير جعجع لكن من حق الشعب على قياداته أن تعتذر عما جلبته عليه. أوليس الماروني الحضاري المنفتح ابن الشرق أجمل من ذاك الرجل المهزوم الذي يستجدي مساعدة العالم على أخيه ويزج أبناءه وإخوته في لهيب الاغتراب الحضاري والإنساني والقلق الوجودي؟ هذا الكلام يفهمه جيدا السيد سمير جعجع.

من حق ابن المتن الشمالي أن يبكي شهيده النائب والوزير الشاب بيار أمين الجميل وأن يكون وفيا لما كان يمثله له هذا القيادي، ولكن من حقه أيضا ووفاء لهذه الشهادة أن نحفظ له حقه في الاختيار ونبعد عنه هذا الابتزاز العاطفي.

من هنا يبدو التحدي كبيرا أمام الدكتور كميل ألخوري والعماد ميشال عون والسوريين القوميين الاجتماعيين في المتن والطاشناق وأنصار ميشال المر( مع حفظ الألقاب) أن يبقوا أوفياء أيضا لقيمهم في التعامل مع الشق الآخر من المتن أولم يقل ابن المتن الشمالي أنطون سعادة أننا ننتصر بهم لا ننتصر عليهم.

والتحدي أمام القوى الوطنية المتحالفة التي أوصلت مرشح التيار الوطني الحر للندوة البرلمانية يبدو كبيرا في تصليب تحالفها حول المبادئ الوطنية وتأكيد الصورة الحقيقية للبنان. المعركة الحقيقية هي معركة مستقبل لبنان سواء صار اسم ميشال عون تصر اله أو نصرليان أو صار اسم السيد حسن نصر الله أو عون الله القافلة تسير.....