الكاتب : نجيب نصير

لا أدري من أين تأتي المفارقة حين يصف أحدهم وضع الشعر أو الرواية أو الأدب فيقول: والمفارقة أن الشعر كان مرافقا للحياة اليومية آنذاك، أو الرواية أو القصة أو المقالة الصحفية هي أيضا ويا للمفارق ، إن لديها مفارقة، أنها كانت مهمة للحياة الاجتماعية في يوم من الأيام، ومع كل الحسرة والجدية التي يتمتع بها هؤلاء الذين يتفاجؤون بوجود مفارقة (وعليها أن تكون من النوع المضحك المبكي المرير)، إلا أن المفارقة بالفعل ليست موجودة، إلا إذا كانت موجودة في وضعية الفروج ومكانته الاجتماعية مثلا حيث انتقلت من الفروج الذي يبرم على مهله على شواية الغاز إلى الفروج البروستد والمسحب والشاورما، أو وضعية المواصلات العامة من الباصات (تبع الفرنكين) الى ميكرويات التوربو، ولكن ومع أهمية الاتصال بين موضوعي الشعر والفراريج على أساس الثقافة وليس شيئا آخر، فالطعام والطبخ أيضا ثقافة نبيلة وعميقة ومستخدمة يوميا، حيث لا أجد أية مفارقة بين ضرورات الشعر في الخمسينيات الماضية وضروراته اليوم، فهل كان من المتوقع ازدياد مستهلكي الشعر والقصة القصيرة المحليان قياسا الى مستهلكي الفراريج، وهنا تكمن المفارقة، أم أن المفارقة تكمن بين الثقافة المؤسسة لاستهلاك الشعر واستهلاك الفراريج أو الفلافل .

لا أدري متى احترم مجتمعنا الشعر أكثر من الفراريج أو ربما الكوسا محشي، ومع هذا ليس ثمة من صراع مؤكد أو غير مؤكد بين الشعر والفراريج كمنتجين ثقافيين، حيث لم يصادف أن مواطنا لم يستطع النوم لأن أمه لم تقرأ له قصيدة لأدونيس قبل النوم .

إذا لماذا استخدام المفارقة (كمفهوم أو ككلمة إنشائية) لكي نثبت أن الأدب في العموم والشعر على وجه الخصوص (كان) من أولويات عيشنا الاجتماعي، فالشعر والأدب والإبداع هو على نفس الأهمية اليوم، ولكن قوانين الحياة والعيش وزعت هذا المجد على عدد أكبر من الأشخاص وعلى عدد أكبر من المنابر وعلى عدد أكبر من طرق الإنتاج، بحيث لا مفارقة ولا من يحزنون، فعدد دواوين الشعر المطبوعة منذ بداية التسعينيات حتى الآن فقط ربما تساوت أو زادت عن عدد الدواوين أو المجموعات الشعرية منذ دخول العربية إلى هذه البلاد، والناس تقرؤها ولكنها لا تعقد حلقات الدبكة على تلمظها، كما أن الناس تسمعها عبر الإذاعة والتلفزيون وتراها في زوايا الصفحات الثقافية، ولكن طريقة التعبير عن اللذة من القراءة والاستماع اقتصرت على هز الرؤوس، وأعتقد أن هذا يكفي بغض النظر إذا كانت القصيدة عظيمة أو عادية، حيث أن مهمة الشاعر أو القاص أو الروائي تنتهي بعد النشر وحسبه أن هناك من قرأ كلماته .

إذا أين المفارقة؟ يبدو أن المقصود من المفارقة مجازا هو التلميح الى الشهرة والضجة والفرقعة، التي لم تعد تتوفر اليوم إلا عبر بناء إعلاني ذكي ولماح تتخلله الكثير من العلاقات العامة وهذا طبيعي في أبجدية هذه الأيام التي نعيش فيها ، فقد تم اختراع وسائل الإنتاج الثقافية التي تجاوزت الورقة والقلم والمطبعة، وأصبح المنتوج الثقافي يعبر عن ضرورته في ذاته، فإذا استطاع هذا المنتج تضمين نفسه هذه الضرورة عاش وفرقع وانشهر وإذا لم يستطع فعليه الاعتماد على الحظ فلرب مصادفة أو رقابة تجعله من المشاهير دون أية مفارقة.