هل ارتفعت معدلات الفقر في سوريا؟ وما علاقة ذلك بالبعد الاجتماعي لاقتصاد السوق؟ وكيف ستحمي سوريا مواطنيها في العام القادم؟ وهل ستحصل مراجعة جدية لأسباب تعدد الأزمات واستفحالها؟

ماذا بقي من حقوق المواطن في عام (2009)؟

أعتقد أن نقطة الانطلاق في تقييم الواقع الاجتماعي في سوريا، يجب أن تبدأ من قدرة الحكومة على تأمين الاحتياجات الأساسية للمواطن، ونحن هنا لا نتحدث عن احتياجات المواطن الفقير الذي اعتاد على أن لا يحصل على معظم حقوقه، رغم عدم موافقتنا على هذه المعادلة، ولكننا نتحدث عن الشريحة الوسطى التي شعرت بأنها قد انضمت خلال السنوات الثلاث الأخيرة إلى نادي الفقراء، رغم أنها الأكثر مساهمة في القيمة المضافة على المستوى الوطني، ورغم أننا بدأنا نسمع عن صندوق للضمان الاجتماعي، ولكننا نعتقد أن الإطار المقترح لهذا الصندوق لا يمكنه من أن يقدم حلاً لشريحة كبيرة من المواطنين، فصندوق لتقديم المعونات للطبقة المسحوقة، مختلف عن صندوق للرعاية الاجتماعية مخصص لردم الفجوات التي يحققها مشروع التحول إلى اقتصاد السوق، فالمواطن له حقوق، وسواء قررت الدولة المحافظة على نظام الاقتصاد الموجه أم قررت الانتقال إلى اقتصاد السوق اجتماعي أم دون اجتماعي، فالمواطن له حقوق أساسية ويجب أن يحصل عليها، وهي الحد الأدنى الذي يضمن استمرار مساهمته في التنمية، وبينما يستعر الحوار منذ أكثر من سنتين بين الحكومة ووسائل الإعلام حول مدى فعالية برامج التحول، وآخرها تبادل الاتهامات حول رفع الدعم وارتداداته، فإننا نعتقد أن الوضع الحالي لم يعد يحتمل هذا النوع من الجدل، فما حصل قد حصل، والكارثة قد وقعت ويجب على الجميع الآن التكاتف لمحاولة الوصول لحلول إسعافية تسمح بالحد من تأثير ارتدادات الأزمات العميقة التي نواجهها، وذلك بغض النظر عن الجهة التي كانت مسؤولة عنها، الحكومة الحالية أم الحكومات التي سبقتها، ولكن الحقيقـــة العاريــــة أصبـــحت أمامنـــا، فالمواطن السوري على موعد في النصف الأول من عام (2009) مع تحديات قد تسحب منه أبسط مقومات الحياة، وتضعه وجهاً لوجه أمام المجهول، وبرامج التنمية الاقتصادية، رغم تحفظنا على مدى كفاءتها وجدواها، لم تترافق بتنمية اجتماعية، وذلك رغم أن هذا المصطلح (التنمية الاقتصادية والاجتماعية) يعتبر من التوجهات البديهية حتى في أدبيات الأمم المتحدة.

إصلاح المديين القصير والبعيد:

تروج بعض الجهات الحكومية لمجموعة من الأفكار المتعلقة بأسباب الكارثة الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها سوريا، وتعيد السبب إلى آلام مخاض (اقتصاد السوق الاجتماعي) ويتم الترويج لفكرة أن هذه الآلام قصيرة المدى، بينما ينتظرنا الرخاء والبحبوحة في المستقبل.

من وجهة نظرنا، فهذه العبارات لا يوجد ما يدعمها على أرض الواقع، ولا نعني هنا واقع المواطنين وبشكل خاص الطبقة الفقيرة التي تزداد نمواً، ولكن واقع الاستثمارات والمشاريع، فالقضية ليست بحجم الاستثمارات رغم قلتها، ولكن في مجالات الاستثمار، فالاستثمارات التي لا تقدم قيمة مضافة، هي استثمارات لمصلحة أصحابها فقط، وبالتالي لا يمكن أن نتوقع نتائج بعيدة المدى لهذا النوع من الاستثمارات، فما هي المزايا التي سنحصل عليها إن قامت مجموعة ما ببناء مجموعات سكنية فاخرة، أو قامت مجموعة أخرى ببناء منتجعات سياحية؟ أو قامت مجموعة ثالثة بإقامة تجمعات لمقرات شركات؟ أو تم افتتاح مصارف جديدة أو غيرها. كل هذه النشاطات هي نشاطات مساعدة وهامة، إلا أنها لا تقدم بحد ذاتها قيمة إنتاجية مضافة، ويجب النظر لها كجزء من منظومة استثمارات، ورغم أننا لا نعارض استقطاب هذا النوع من الاستثمارات، إلا أنها بالتأكيد ليست الاستثمارات التي تسمح لنا بتوقع مستقبل أفضل على المدى البعيد، كما يتم الترويج له. ولهذا فنعتقد أن المعاناة التي يعاني منها المواطن هي أول الغيث، والحقوق التي يتم سحبها منه واحداً تلو الآخر لن تعود وفق السياسات المتبعة حالياً، وبالتالي فما يحصل ليس مخاض برنامج تحول ناجح، بل معاناة مستمرة، وكرة ثلج تتدحرج دون تحكم.

الخدمات الأساسية في مهب الريح:

من المعلوم أن أزمة المياه التي ابتدأت في سوريا منذ عدة سنوات، لم تتم معالجتها حتى الآن، وبينما نسمع الكثير من التنظير عن مستقبل أفضل في مجال المياه، فالواقع يبين أن المواطن السوري يحصل سنوياً على كميات من المياه تقل عن السنوات التي سبقتها، والسبب الرئيس في ذلك يكمن في سوء إدارة الموارد المائية الموجودة بشكل معقول في سوريا، فالمياه المخصصة لاستهلاك المواطنين يجب أن يكون لها الأولوية القصوى، بينما نحن نمنح الأولويات للمياه الخاصة بزراعات غير غذائية، ولنشاطات تم إنشاؤها عشوائياً، ولمنتجعات سياحية تتوسع دون ضابط، وهكذا فالمواطن السوري يعاني من سوء إدارة المياه إلى درجة أنه وفي بعض المناطق تصل المياه للمواطنين مرة في الأسبوع هل يمكن تخيل ذلك؟.

أما في مجال الكهرباء، فقد تم اللجوء لحل إسعافي وعلى حساب المواطن، حيث تم وضع تسعيرة (عشوائية) للكهرباء لا يمكن ضبطها أو التحكم بها، وبالتالي حصلت مؤسسة الكهرباء على أموال إضافية من المواطنين، وذلك دون أن تحسن خدماتها، ولهذا فالمشكلة ستعود للظهور في وقت قريب. أما المازوت وما يرتبط به من نشاطات اقتصادية وخدمية، فأعتقد أنه يصح أن يقال عنها أنها قد أصبحت تاريخاً، وربما هذا يقودنا لأحد الارتدادات الأخطر للمازوت، وهو التأثير على الزراعات الاستراتيجية ومن أهمها محصول القمح، وذلك رغم علم الحكومة بقصة القمح التي ابتدأت مع قرار الحبة السوداء الذي أدى لخسارتنا لأكثر من 3 مليون طن من محصول عام (2007) وبالتالي كان من المفترض أن يكون هناك سياسة طوارئ اعتباراً من منتصف عام (2007) بينما وكالعادة تمت لفلفة الموضوع في حينه، ولهذا تم التعامل باستخفاف مع قضية القمح في هذا العام أيضاً مما أدى لأزمة ربما تظهر في مطلع العام (2009) وهو أيضاً الموعد المتوقع وفق السياسات الحالية للقيام برفع ثان لأسعار المازوت، وبالتالي سيبقى المواطن السوري أو شريحة واسعة من المواطنين دون خبز وماء وكهرباء ومازوت، ونترك للقارئ تخيل الآثار الاجتماعية المترتبة على ذلك، هذا إن لم نشر إلى مستوى إدارة الدعم الخاص بالخدمات الصحية والذي كانت آخر تجلياته قضية الفساد الواسعة المكتشفة. مؤخراً (قضية اختلاسات أدوية السرطان في مشفى البيروني) والتي أعتقد أنها قمة جبل الجليد التي ظهرت على السطح، وسوء إدارة الدعم المتعلق بالتعليم ما قبل الجامعي، والذي يمكننا استنتاجه من حجم الإقبال على الدروس الخاصة، وكل ذلك الثمن لأجل ماذا؟ لأجل عدم وجود قناعة لدى الجهات الحكومية بجدوى المعلومات في عملية التطوير، ويبدو أن سوريا تدفع الآن ثمن الانكماش الذي حصل منذ عدة سنوات في عملية تطوير نظم معلومات حكومية، فالملايين التي وفرتها الحكومة في حينه والتي كانت كفيلة بإطلاق صناعة برمجيات جدية في حينه. يتم دفعها بعشرات المليارات الآن.

المعلومات هي عين وأذن برامج الإصلاح:

أعتقد أن مشكلة القمح وضياع جزء من المخزون الاستراتيجي تعبر بشكل دقيق عن ضعف نظم المعلومات الحكومية، فمن المعلوم أن الجهات المعنية لم تصدر الأرقام الحقيقة للمحصول إلا بعد تسرب هذه الأرقام بشكل غير مباشر، ورغم ذلك حصلت مجموعة من التصريحات غير المسؤولية التي أدت إلى عدم التحرك قبل فوات الأوان، ولم تظهر المعلومات الدقيقة إلا مع انتهاء موسم الحصاد الحالي، وبالتالي لم يعد هناك ما يمكن عمله، وهنا ربما من المفيد الإشارة إلى أن نظم إدارة عمليات شراء وتخزين الحبوب لا تتمتع بالحد الأدنى من الكفاءة، ومثلها نظم إدارة عمليات تسليم الحبوب للمطاحن وتسليم الدقيق للجهات المعنية، وربما علينا التذكير بقرار الحكومة الذي قضى بحرمان إحدى شركات البرمجيات من التعاقد مع القطاع العام بسبب عدم تنفيذها مشروعاً لأتمتة أعمال الشركة العامة للمطاحن، والذي عادت عنه الحكومة بعد بضعة أشهر حين تبين خطأ هذا الإجراء، إلا أن هذه الحادثة تسمح لنا بتوضيح استخفاف في النظرة الحكومية لأهمية نظم المعلومات والمشاريع المتعلقة بها، وبالتالي التعامل مع مواضيع شديدة الحساسية بشكل مشابه للتعامل مع القضايا الهامشية (راجع مقال القطاع الخاص مكسر عصا الإدارة الحكومية للكاتب في عدد سابق من المجلة) ولهذا فإننا نعتقد أن العديد من المفاجآت غير السارة مازالت أمامنا طالما أن عملية الإصلاح لا تمتلك عيوناً وآذان، أي نظم لإدارة التغيير قادرة على إظهار الآثار الجانبية للتغيرات المقترحة في الوقت المناسب، وبما يمكن متخذي القرار من اتخاذ الإجراءات التصحيحية قبل فوات الأوان.

المواطن في عام (2009):

رغم صعوبة ترتيب أولويات الأزمات المختلفة بسبب تداخلها، إلا انه بلا شك قد جاءت أزمة الخبز لتطغى على كل ما سبقها، وإن كانت المشكلة بحاجة لبضعة أشهر للظهور، فعلينا اتخاذ الإجراءات الإسعافية منذ الآن، ومن أهمها وقف الهدر الكبير في عمليات دعم وتوزيع الخبز المدعوم، وذلك لخفض استهلاك الدقيق المدعوم، وربما بناء مخزون مؤقت بطرق استثنائية، وذلك بالتوازي مع اتخاذ إجراءات جدية لضمان وجود محصول مناسب في العام القادم، وربما على المدى المتوسط إعادة النظر بأهمية نظم المعلومات الوطنية، إذ لا يمكن إدارة برنامج تحول بالحجم الحاصل دون وجود نظم معلومات وطنية فعالة، فنبل النوايا لا يكفي لمواساة آلام الفقراء.