يعرف الفرنسيون كغيرهم من الغربيين أن الشرق العربي لا يحكم إذا حكمه أبناؤه وأن الوصاية والانتداب أو الاحتلال هي الصيغ الأفضل لحكم الشرق.

فكائنا من كان الحاكم فيه قريبا منهم أو مرتبطا بهم لا يمكنه أن يحكم أو يؤمن مصالحهم فشعوب هذا الشرق متمرسة بالعصيان والتمرد على الحاكم المستغرب وأن شعوب هذا الشرق ما زالت محكومة بعقيدة وإيمان ووطنية وما زالت العقائد فاعلة في النفوس رغم الأزمات والاحباطات والهزائم. وكل ما يستطيع فعله المندوبون " السامون" لا الساميون هو التنكيل بمعنويات هذه الشعوب لإجبارها على الانصياع ويعرف الفرنسيون أنهم يستطيعون أن يقولوا كلمتهم دون التلطي وراء الإجماع الأوروبي إذا شاؤوا فهم عندما اتخذوا قرارات تتعلق بالمنطقة وانتهجوا سياسيات تزيد أزماتها تعقيدا لم يلجأوا إلى الإتحاد الأوروبي كما فعل الرئيس شيراك في موقفه من حرب العراق ولا في موقفه من الأزمة اللبنانية والقرارات 1559 و1595 ولا في سياسة دعم الحكومة اللبنانية برئاسة السنيورة وكأن حكومة لبنانية برئاسة غير السنيورة ستؤدي إلى تعديل في الموقف ولا في موقفه من حكومة حماس ولا موقفه الحالي من حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية المنبثقة عن اتفاقية مكة المكرمة ( المكرمة عائدة لمكة) لتأتي زيارة وزير الخارجية الفلسطيني مثالا على اللاإرادة الفرنسية أو لإرادة فاقدة للسيادة.

لذا نرى هذا الغرب يزرع مثل هؤلاء الحكام أو ينزلهم بالمظلات أو على الدبابات، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وفي كل نقطة يستطيع سلما أو حربا كما في لبنان كذلك في العراق وكذا محاولاته تطويع مناطق أخرى. وإذا فشل في الحرب كما في الحالة اللبنانية فإن خطته البديلة عادة ما تكون جاهزة في تدمير البنى السياسية والاجتماعية التي ضمنت انتصار الشعب اللبناني على الحروب والمحن والمطلوب تدمير هذه البنية وإيجاد بنى جديدة تضمن هيمنته وسلطته على مقدرات البلاد التي يستهدفها.

المشكلة هي أن بعض هؤلاء الحكام يستجدون شرعيتهم ودستوريتهم من هذا الغرب لا من شعوبهم بينما الشرعية تكتسب من الشعوب. والمشكلة الأكبر أن هذه الشرعية المكتسبة تأتي عادة نتيجة لمشكلة فقدان المناعة السياسية لدى اللاهثين وراء شرعية غربية وغريبة شرعية يريدون فرضها على شعوبهم.

والواضح في الموضوع اللبناني البسيط، بعكس ما يلو للبعض أن يصفوه بالمعقد، هو أن ليس فيه من يحكم بغير التوافق وتجربة حكومة السيد فؤاد السنيورة دليل على ذلك وتحاول أن تجد شرعيتها بما يسمى المجتمع الدولي الذي هو في الحقيقة توافق الدول الكواسر وأحيانا خضوع دول عظمى للدولة الكبرى المحكومة بالمحافظين الجدد.
هذه الحكومة التي ربما تدار سرا بقوى ظلامية تنشد شرعيتها من الولايات المتحدة الأمريكية تماما كما شرعية الحرب الإسرائيلية على لبنان متناسية أن فاقد الشيء لا يعطيه إلا إذا كانت تريد شرعية متساوية في طبيعتها مع شرعية العدوان والاحتلال الإسرائيلي على لبنان وفلسطين وسوريا والعالم العربي وشرعية ضم القدس والمسجد الأقصى إلى ممتلكات صهيون وشرعية احتلال العراق ونشر ديمقراطية الحرب الأهلية فيه.

المسألة اللبنانية بسيطة جدا يكفي أن يعترف اللبنانيون أن لبنان ليس جزيرة في المحيط الأطلسي بل هو جغرافيا جزء لا يتجزأ من محيطه حتى لا نقول تعابير يمكن توظيفها سلبا. وبناء على هذا الاعتراف يعود لبنان للدوران على محوره الطبيعي. إذاك تحل كل المشكلة المسماة معقدة. وهذا الكلام لم نقله نحن بل قاله أحد قادة حكومة السيد السنيورة الذي قال أن المشكلة مشكلة هوية. والحقيقة أن المشكلة مشكلة شجاعة في الاعتراف بالهوية عند البعض. فالكل في لبنان يعرف الهوية الحقيقة لهذا البلد العربي هوية وانتماء وقضية. لكن السير بالمشروع الأمريكي- الصهيوني يفترض حكما التنكر للحقيقة.

التصعيد الكبير برز من قيادات هذه الحكومة بعد قمة الرياض التي أكدت على الهوية وعلى التوافق اللبناني_اللبناني ليعودوا إلى بيروت وكأن قمة الرياض لم تحصل أو كأن الرياح تجري غير ما تشتهي سفنهم الأطلسية وكانت كلمة السر تدويل لبنان لا تعريبه ولا لبننته.

تدويل لبنان من نافذة المحكمة ذات الطابع الدولي وكأن أحدا في لبنان يعارض المحكمة أو يعارض إحالة أي متهم بالقضايا المحالة إليها للمحاكمة، والحقيقة لم نسمع أحدا يعارض المحكمة بل عارض تدويل لبنان من خلال تدويل كل قطاعاته والتخلي عن كل معالم السيادة التي تنظم العلاقة بين الدول وبين الدول وشعوبها أيضا والحديث يطول حول أهمية القضاء في سيادة الدول كما يطول حول خلفيات وأسباب تدويل مسألة اغتيال الرئيس رفيق الحريري والكل يعلم أن هذا الاغتيال الجبان وهذه الجريمة على بشاعتها لا تطال السلم والأمن الدوليين والإقليميين إلا إذا كانت مفاهيم السلم والأمن قد تغيرت مع التغيرات السياسية الدولية والمصالح الدولية منذ الثمانينات حتى اليوم.

وكثيرا ما سمعنا أن المحكمة هي لحماية اللبنانيين والكل يعلم أن المحاكم الجنائية وغيرها، منذ إيجادها في التاريخ وعبر تاريخها كله، لم تمنع الجرائم يوما بل حاكمت من استطاعت من مجرمين وعفت أكثر مما حاكمت وما زالت الجرائم تتلى في أكثر الدول احتراما للقضاء. وأن ما يحمي اللبنانيين، كما كل الشعوب هو التوافق والأمن والسلام والاعتراف بالآخر وحقوقه بالحياة وبممارستها.

وواضح أن هذا التصعيد من قيادات الحكومة يتناقض مع أبسط مفاهيم الشرعية الوطنية لهذه الحكومة. وواضح منذ البدء أن قيادات هذه الحكومة لم ترد الاستماع إلى ملاحظات تؤكد على سيادة الدولة اللبنانية، بل أنها تريدها عمدا جزء من مخطط تدويل الدولة وتدويل الشعب أيضا.

ويبدو أن اللبنانيين لم يروا بعد أن أكثر المتشددين بالمطالبة بمحكمة دولية في اغتيال رئيس وزراء لبنان هم المحكومون باغتيال رئيس لوزراء لبنان، أليس هذا الأمر مثير للتساؤل حول ما يريده هؤلاء فعلا.

واضح أن المسألة سياسية وليست قضائية على الإطلاق فالرئيس شيراك يريد المحكمة ذات الطابع الدولي بأي ثمن قبل انتهاء ولايته وكأنه يقول للبنانيين ولغيرهم أن لا قيمة للسيادة أمام السياسة والمصالح.
وسمعنا بشكل واضح من رئيس الولايات المتحدة المتدحرج في بلاده والعالم كلاما واضحا لممثلة الشعب الأمريكي رئيسة الكونغرس السيدة بيلوسي أنه يرفض أي حوار مع سوريا لأنه يؤدي إلى فك عزلتها. وكأن ليس المطلوب حلا للأزمة مع سوريا، في ممانعتها للمشاريع الأمريكية في الشرق الأوسط، بل المطلوب تركيعها وعزلها وإخضاعها بل وربما اجتثاثها، حسب اللغة الدبلوماسية للبيت الأبيض جدا.
وفيما نرى اتهاما واضحا لسوريا بأنها تعرقل المحكمة الدولية وهو أمر لا معنى له، فالمحكمة شأن لبناني داخلي وعلى اللبنانيين التعاطي معها ونظامها ولا يمكن لدولة سيدة أن تطالب دولة سيدة أخرى بالخضوع لمشيئتها. وإذا كان " المجتمع الدولي " يريد محكمة تعنى بالشأن السوري فلا عليه إلا البحث مع سوريا بها في علاقة ينظمها القانون الدولي لا السياسة الدولية كما هو حاصل الآن.

ورغم كل ما نسمعه فإن قيادات الحكومة اللبنانية لا تسمع فهي لم تسمع نصف الشعب اللبناني على الأقل الذي خرج معترضا عليها ولم تسمع غالبية الشعب اللبناني الذي مارس صمته وكل ما تسمعه هو همسات الأقبية السرية والمندوبيّن "الساميّن". ويكفي على ما يبدو العودة للأصول ولمبادئ الحياة السياسية في كل بلد وتغليب المصالح الوطنية والتاريخية والمستقبلية على السلطة.

وكأن تدويل لبنان هو المخرج الفعلي لأزمة الهوية التي يعانوها وأزمة السلطة التي افتعلوها، بالمشاركة في صياغة ودعم ما يسمى القرارات الدولية بدء من القرار 1559. متناسين أن الزمن يدور لغير صالح المشروع الذي شاءوا أن يكونوا وقوده ورافعته. متناسين أن المحكمة ذات الطابع الدولي لا يمكن أن تكون غاية بحد ذاتها، بل وسيلة من الوسائل المشروعة، إذا بقيت مشروعه، وأحيانا كثيرة تفقد الوسائل مشروعيتها وشرعيتها إذا تناقضت مع غاياتها ولا شك بغايات المطالبين بالمحكمة الدولية القادرة على محاكمة المتهمين والقادرة على الحفاظ على سيادة لبنان وسيادتهم على مقدراتهم الأمنية والسياسية والقضائية والاقتصادية طالما بقيت الغاية هي الحقيقة. والتاريخ السياسي لولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وحتى فرنسا لا يعطيها براءة ذمة عن مآسينا ولم يحدث، حتى الآن، أي تغيير إيجابي، فلا أحد يدري ما الذي يدفع قيادات الحكومة اللبنانية الرهان على هؤلاء الم يروا ماذا حصل بشاه إيران وصدام حسين وغيره وغيره؟

فالمطلوب لبنانيا لإبقاء المحكمة مطلبا شرعيا وللوصول إليها وإلى الحقيقة أن يعيد اللبنانيون لبنانهم إلى محوره الطبيعي ودوره الطليعي. فهل ستقبل قيادات الحكومة اللبنانية هذا التحدي التاريخي أم ستبقى تراهن؟