وجد الحكم السوري نفسه في الأيام الأخيرة أمام مأزق على ساحته الشعبية بعيدا عن المهارات والمماحكات الحزبية، حيث الأمر يتعلق بدماء نازفة في بادية الشام والمثلث البدوي الذي يربط تاريخيا سورية بالعراق مرورا بالكويت والأردن ثم الجزيرة العربية ، الأصل لكل المنابت والأصول مهما تعددت الجنسيات في الدول التي على أطراف ذلك المثلث المثير للرعب والفوضى والاستقرار سواء بسواء، حيث للصحراء مواعيدها التي أطاحت يوما بما كان يسمى الجمهورية العربية المتحدة بين الإقليمين السوري والمصري على يد قوة عسكرية سورية من رجالات البادية بقيادة المقدم لؤي الأتاسي.

في التفاصيل أن الحكم في دمشق وجد نفسه هذه المرة يعاني أزمة جديدة بعيدا عن طائفية الحكم وأيدولوجيات السياسة وتنظيراتها ، لا بل بعيدا عن الطائفية، فما حدث في الأيام الأخيرة من دم نازف بين قبيلتين لهما الدور الكبير والأهم في تحديد مسار العمل السياسي ليس في سورية وحدها بل في دول الجوار أيضا.

وكان لمحللين تلخيص ما جرى بأنه ثأر عشائري بين قبيلتين متنافرتين في قتل واحد من أبناء العشيرة الأخرى، لكن ما حدث في محافظة الحسكة في منطقة الجزيرة على الحدود السورية العراقية بين قبيلتي شمر والجبور له أبعاد أخرى على خلفية مقتل محمد بن عبد العزيز المسلط وهو من أهم زعماء القبائل هناك على يد واحد من قبيلة شمر ذات الزعامة في المثلث البدوي.

وإذ البيان الصادر عن لسان المتحدث باسم وزارة الإعلام السورية كان واضحا في محاولة تبرير ما جرى على أنه "حادث بسيط في قرية سورية بين متنازعين وأن القضاء السوري سيحكم في الأمر"، إلا أن كل الدلائل تشير إلى أن الحكم السوري يواجه معضلة كبيرة في ضبط الأمن في مختلف أنحاء البلاد ، خصوصا لجهة البادية ، التي كان تعتبر باروميتر المعادلة السياسية في الترتيب السياسي السوري منذ حملة قوات البادية بقيادة لؤي الأتاسي في أكتوبر (تشرين الأول) العام 1961 لصالح إنهاء ما كان يسمى الجمهورية العربية المتحدة بزعامة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

وكان المقدم لؤي الأتاسي اقتحم على رأس من قوة البادية في سورية، عاصمة الإقليم الشمالي وأنهي ببيان محدود صلاحيات جمهورية عبد الناصر المتحدة، ومعها صلاحيات من عيّنهم عبد الناصر في مواقع قيادية في الإقليم الشمالي يتقدمهم الضابط عبد الحميد سراج الذي حكم سورية في العهد الناصري بالحديد والنار، وفي آخر أعوامه صار حليفا لصدام حسين ديكتاتور العراق السابق المعتقل عند الأميركيين حاليا.

ومنذ يومين، حاولت وسائل الإعلام السورية الرسمية، حيث لا وسائل أخرى ، القفز على الحقائق حول ما يجري مكتفية ببيان رسمي يقول بأن ما جرى في مدينة الحسكة أمر عادي "ولا يتجاوز كونه إجراء قضائي متعلق بشخص قتل آخر من أسرة أخرى".

لكن خلافا لما قاله المتحدث باسم وزارة الإعلام السورية، توضح التفاصيل شيئا آخر يتعلق بموقف هذه القبائل وهي مؤثرة في الحال السوري من استمرار الحكم القائم بأدائه، والتقارير قالت إن مصادمة القبيلتين "شمر والجبور" تصب في هذا الاتجاه. ومعروف ان الحكم السوري يواجه أزمة داخلية حادة لجهة مطالب شعبية متصاعدة بضرورة توفير مشاركة شعبية عبر انتخابات حرة ونزيهة وإنهاء أدوار ما يسمى الحرس القديم الذي لا زال يمسك بالسلطة عبر رجالات من الاستخبارات المرتبطة بالحكم.

وكان الأمين العام لحزب النهضة الوطني الديمقراطي (معارضة) عبد العزيز دحام المسلط الأربعاء 24-8-2005 أن اضطرابات اندلعت بين عشيرتي الجبور وشمر في الحسكة (595 كم شرق دمشق) بعد مقتل أحد أفراد الجبور. وأكد المسلط للوكالة الفرنسية أن الاضطرابات مستمرة منذ الثلاثاء وأن عشيرة الجبور "طالبت عشيرة شمر التي تدعمها السلطات السورية بالخروج إلى ما بعد حدود محافظة الحسكة حتى تهدأ الأوضاع بين القبيلتين".

كما طالبت عشيرة الجبور "بتسليمها الجاني الذي قتل ابن عمه محمد عبد العزيز المسلط". وتابع المسلط أن "عشيرة الجبور طالبت بحماية دولية لأنها تخشى تحميل هذه الاضطرابات بعدا سياسيا"، مضيفا أن "اشتباكات جرت مع قوات الأمن في محافظة الحسكة" الأربعاء. ولم يفد عن وقوع إصابات من جراء الاضطرابات.

وكانت صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية ذكرت الأربعاء الماضي في تقرير أن أحداثا دامية وقعت في اليوم السابق في مدينة الحسكة بين العشيرتين، على اثر مقتل الشاب محمد عبد العزيز المسلط على يد أبناء قبيلة شمر، مما أدى إلى هجوم نحو7 آلاف من عشيرة الجبور على عشيرة شمر وحرق منازلها في الحسكة.

وبحسب مصادر الصحيفة تدخلت قوات الأمن وأخلت عشيرة شمر من الحسكة، تحسبا لانتشار المواجهات في المدينة. وجرى استخدام نحو 3 آلاف عنصر من قوات حفظ الأمن السورية، للسيطرة على الوضع وترحيل أفراد عشيرة شمر إلى مدينة القامشلي، بيد أن المواجهات تجددت، ولكن هذه المرة بين عشيرة الجبور وقوات الأمن، وجرى تبادل إطلاق النار، واستخدمت القنابل المسيلة للدموع في المواجهات التي استمرت 4 ساعات في شوارع الحسكة الرئيسية.

يذكر أن ابن عم القتيل هو محمد دحام عبد العزيز المسلط زعيم حزب النهضة غير المرخص في سورية، والذي يحمل الجنسية الأميركية حسب هذه المصادر. وكانت مواجهات سابقة بين العشيرتين العربيتين، قد أسفرت عن سقوط عشرات القتلى والجرحى.

وحسب ما يعرف عن عادات وتقاليد منطقة المثلث البدوي، فإن قوى قبائلية كثيرة تتناحر على زعامته ، وتتربص حراكا سياسيا مرتبطا بقرارات دول شاركت في حرب العراق التي أطاحت بحكم صدام حسين . ويشار في الاتجاه نفسه إلى أن قبائل المثلث البدوي إياه ابتداء من قمته في أقصى منطقة الجزيرة السورية وانتهاء بالقاعدة، إلى أرض نجد، لا تعترف بأية حدود جغرافية والناس هناك يحملون جنسيات البلدان المجاورة سعودية كانت أو كويتية أو عراقية ثم أردنية أو سورية.

ولا بد من التذكير بأن الرئيس العراقي الانتقالي السابق المهندس غازي بن عجيل الياور يعتبر واسرته من رؤوس قبائل شمر التي تتناحر على الزعامة في مثلث بادية الشام مع قبيلة الجبور التي لها جذور شيعية وسنية في العراق.

وقبيلة الجبور، قدمت عديدا من رجالاتها وخصوصا من القوات المسلحة العراقية، حين حاول ضباط ينتمون إليها الانقلاب مرتين في تسعينيات القرن الفائت على حكم الديكتاتور السابق صدام حسين. وينتمي لهذه العائلة كزعيم سياسي عراقي مشعان الجبوري رئيس كتلة المصالحة، وهو بعثي سابق انشق عن حكم صدام حسين.

وكان حكم صدام حسين حكم بالإعدام على عدد من الضباط الجبوريين، متهما إياهم بمحاولة الانقلاب ضده في مطلع التسعينيات من القرن الذي مضى، ومن بين الذين نفذ فيهم حكم الإعدام كل من النقيبين سطام غنام الجبوري ومضحي علي حسين الجبوري وهيكل شبيب الجبوري والروائي حسن مطلق الرملي والقاص المعروف محمود جنداري، وفي العام 1991 أصدر حكم صدام حسين قرارات بإعدام عدد كبير من ضباط سلاح الجو والحرس الجمهوري بالإعدام ونفذت تلك الأحكام وفشلت المحاولة الانقلابية آنذاك.

مصادر
إيلاف (المملكة المتحدة)