مضى عام بالضبط، على الفاتح من سبتمبر 2001، حين دهمت مجموعة مسلحة مدرسة في مقاطعة بيسلان (ضاحية شمال الأوسيتي)، واحتجزت عددا من الأطفال، الآباء والمدرسين. دامت الأزمة حوالي ثلاثة أيام، عرفت العديد من مشاهد التفجيرات ومداهمات القوات الحكومية. لقي حوالي 376 شخصا مصرعهم، من بينهم 186 طفلا. وقد تبنى هذه العملية شامل باساييف، أحد قادة حرب الشيشان. تحركت الصحافة الغربية حينها وبمنطق غريب، في سلسلة من التهجمات على الرئيس الروسي بوتين، دون أن تقدم أقل تعابير العزاء إلى الشعب الروسي، متهمة بوتين بالمسئولية على هذه المأساة، من ناحية لأنه يقود حربا استعمارية ضد الشيشان، ولأنه أعطى أوامر بالمداهمة العسكرية العمياء لقواته على المختطفين القابعين بالمدرسة. بعض الكتاب ذهب إلى أبعد من هذان
متهما الرئيس فلاديمير بوتين بافتعاله لهذه الكارثة، لكي يبرر المزيد من العمليات القمعية ضد الشيشان. [1]
أما الكرملن، فقد صرح من جهته أن هذه العملية لا تمت بصلة ألبتة بالصراع الدائر بالشيشان، والذي هو في طريقه إلى التسوية، ملوحا إلى أن روسيا صارت اليوم هدفا للإرهاب الدولي. إلا أن هذه الرواية نسخت فيما بعد، إذ لوح بعض الخبراء الروس بإمكانية وقوف أجهزة المخابرات البريطانية وراء الحادث، بغية زعزعة استقرار الفدرالية الروسية. [2]

وبعد عام على الحادث، مالذي نعرفه عن هذه التراجيديا؟ ماهي الأهداف السياسية والدعائية وعواقبها؟

المأساة الشيشانية

لفهم أبعاد هذه الحادثة، فانه يجمل بنا وضعها في سياقها التاريخي. فالشيشان دولة عضو في روسيا الاتحادية، وقد عرفت حربين متتاليتين في عشرية واحدة، ولازالت تحت رحمة الدمار. [3]وبالنسبة لأولئك الذين يحملون تصورا عرقيا لروسيان على أنها سكانها من البيض وهم أرثودوكس، فهذه الحرب في نظرهم حربا كلاسيكية من نوع الحروب التاريخية الاستعمارية. وعلى العكس من ذلك، فالذين يرون البعد الأورو – آسيوي للفدرالية الروسية، فان المشكل القائم اليوم، يعود إلى جذور انهيار الاتحاد السوفييتي في الحقبة الممتدة بين 1991-1999، والتي تردد فيها الرئيس بوريس يلتسين، بين الحرب ضد شعبه والسماح بالاستقلال. وقد مكنت فترة اضطراب الحكم هذه من تعاضد كل من المجموعات المسلحة وخطباء التيار الإسلامي، وفق مسار شبيه بذلك الذي عرفته أفغانستان في نفس الفترة.

انهما وجهتا نظر مختلفتين تماما، لكنهما تساعدا على فهم جيد للأبعاد الايدليوجية التي تختفي وراء هذه الحادثة. فوجهة النظر العرقية لروسيا، تحظى بشعبية كبيرة في روسيا و الشيشان، وتجد لها أنصارا كثر ومن يدافع عنها بقوة، بما فيهم اليمين المتطرف، كما تحظى في الغرب بدعم أنصار "صراع الحضارات". أما وجهة النظر التي تأخذ في الحسبان البعد الأورو – آسيوي، فيدعمها الرئيس فلاديمير بوتين، والذي ما إن وجد الفرصة سانحة، إلا وأشاد بما قدمه الوجود الإسلامي في بناء الدولة الروسية. [4]

وان التحليل التاريخي ليعطي الحق لوجهة النظر الأورو – آسيوية، كما أكد ذلك الأستاذ فرانسيسكو فيقا بجامعة برشلونة [5]. والذي لم يستبعد كلية البعد العرقي كإشكالية يمكن أن يتشكل على أساسها مشروع سياسي ما.

ومهما يكن، فان المسألة الشيشانية كانت وستظل تشكل تأكيدا، مسألة استراتيجية دولية: فهذه الدولة تعبرها شبكة مهمة من أنابيب النفط الحيوي للتصنيع الروسي لمادة البترول ببحر قزوين. ومن هذا المنطلق، فهو يمس المصالح الكبرى للدول المنافسة للفدرالية الروسية، وبالخصوص الولايات المتحدة. الأمر الذي يرشح إمكانية توسع رقعة الصراع إلى كامل التراب القوقازي. [6] ومساعي الولايات المتحدة تبدو واضحة في هذه المنطقة، فقد نشرت الكثير من عملائها بجورجيا مثلا، والذين يقومون بمهمة تدريب الجيش ومراقبة المجال الجوي انطلاقا من قاعدتها العسكرية التركية بمقاطعة " انسيرليك" [7]. وردا على هذا المخطط، فان روسيا لا تخفي دعمها للانفصاليين بمقاطعة " الأوسيتي الجنوبية" بجورجيا. [8]

انتخابات شهر أوت 2004

وقد مكنت المسيرة السياسية التي تقودها الفدرالية الروسية بالشيشان، من تنظيم انتخابات بالشيشان، يوم 29 أوت 2004. وقد أعلن المراقبون الدوليون وبإجماع، بمن فيهم مراقبي الجامعة العربية، بنزاهة المسار الانتخابي، بينما جنحت الصحافة الغربية، ومن منطلق الوفاء لمبادئها، إلى إدانة هذه الانتخابات والتشنيع بها، واصفة إياها بالمهزلة التي يقف وراءها الدكتاتور بوتين.

لقاء شيراك بوتين شرودر ليلة عملية الاختطاف

ولم يلقى نداء المقاطعة الذي أطلقه الانفصاليون استجابة واسعة، إذ بلغت نسبة المشاركة 79%. وكان المرشح الجنرال ألكانوف، والمناصر لوحدة الفدرالية، قد انتخب دون صعوبات تذكر. و موقف ناشز منها، صرحت الصحافة الغربية أن هذه النتائج لهي دليل قاطع على عدم نزاهة الانتخابات.

يومان بعد الانتخابات، كان الرئيس الفرنسي جاك شيراك والمستشار الألماني جيرهارد شرودر، واللذان يحملان تصورا مغايرا للأزمة، كانا قد سافرا باتجاه مقاطعة "سوشي"، من أجل تهنئة الرئيس بوتين، على سعيه لإنجاح مسار الانتخابات، وبناء مؤسسات ديمقراطية بالشيشان.

يشار إلى أن أنصار العنف بالشيشان، لم يحولوا دون سير الانتخابات ونجاح هذا المسار السياسي. رغم أنه في الرابع والعشرين من شهر أوت، انفجر أنبوبا من نوع154 يربط موسكو وسوشي، وآخر من نوع 134 يربط بين موسكو وفولقورارد عند الإقلاع مخلفين ما يقرب من 90 قتيلا. وبعد التحريات تبين للسلطات أن الطائرتين كانت محل هدف للهجومين. وقد تبنى هذين الحادثين ما عرف بكتائب الاسلامبولي. [9] وقد نفذت نفس المجموعة في الحادي والثلاثين من شهر أوت، تفجيرا لقنبلة بالعاصمة موسكو بالقرب من محطة المترو "ريشكايا"، مخلفة مقتل عشرة أشخاص وخمسين جريحا. لكن الأدهى، كان ما حصل فيما بعد.

مجزرة بيسلان

كان ذلك في الفاتح من سبتمبر، حيث دخل حوالي 32 رجل وامرأة مبنى مدرسة ببيسلان (الأوسيتي الشمالية بروسيا الاتحادية) أثناء حفل تخليدا ليوم "المعرفة". جمع هؤلاء حوالي 1300 رهينة من الأطفال، أولياء التلاميذ و عمال المدرسة بالمكان المخصص للرياضة بالمدرسة، وحملوهم بكم رهيب من المتفجرات.

صورة منتقاة من مادة الفيديو التي عرضها المختطفون وهم يصورون الأطفال داخل المدرسة

حاصرت قوات الأمن المدرسة، في الوقت الذي كان الدكتور ليونيد روشال (مفاوض سابق في أزمة مختطفي مسرح موسكو)، كان قد وصل لمباشرة مهمة التفاوض. في هذه الأثناء، لم يصرح المختطفون بأي تصريح، رافضين أن يقدموا الطعام والشراب للرهائن، كما كانوا يضربون كل واحد منهم كلما جرح شخص منهم من طرف قوات الأمن.

في هذه الأثناء، كان الكرملن والذي لا يعتبر الحادثة ذات صلة بالصراع الشيشاني، بل بمحاولات التدخل الأجنبي، قد استدعى مجس الأمن لهيئة الأمم المتحدة. غير أن هذا الأخير رفض إصدار مشروع قرار حل نهائي للمشكلة الشيشانية، واكتفى بإدانة عملية الاختطاف وتفجيرات الطائرات، والتي عززت من تضامن المجتمع الدولي مع السلطات الروسية من أجل توقيف المشتبه بهم ومحكامتهم. [10]

في يوم الغد، حاول رئيس جمهورية انغوشيا المجاورة " روسلان أوشيف" إحداث تسويق إعلامي لمحاولاته الرامية لإجراء الوساطة. غير أن ذلك لم يأتي بشيء يذكر. بقي الأطفال دون تغذية، وأجبروا على شرب تبولهم من أجل حفظ حياتهم. بدا المختطفون غير مكترثين ولا مبالين لما يحدث. كان قائدهم يصرح أنه يأتمر بأوامر شامل باساييف. واصلت المجموعة تعكير صفو المجتمع الروسي، بينما تدافعت وسائل الإعلام من كل حدب وصوب إلى المدينة الصغيرة. وفجأة كانت تستقبل عددا من الشخصيات التي صرحت أمامهم أنها لن تقدم الشراب للأطفال حتى يعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن استقلال الشيشان على شاشة التلفزة.

في اليوم الثالث، سمح المختطفون للأجهزة الطبية بالدخول لجمع عشرين جثة من جثث الخاطفين الذين قتلوا، بسبب ارتفاع درجة الحرارة والرطوبة التي دفعت الجثث إلى التحلل. ثم بعد ذلك انفجار قوي هز أرجاء المكان. كان يعتقد أنها طلقة رصاص من سلاح أحد أولياء الأطفال المختطفين خارج المدرسة، وربما كان صوت دوي انفجار قنابل عشوائي. شكل دوي الانفجار إنذارا استفزازيا عاما انتهى بتدخل فوات الأمن وهجومها على المبنى. خلقت عمليات إطلاق النار 376 قتيلا، بينهم 11 جنديا روسيا و32 من الخاطفين.
لم يبقى على قيد الحياة إلا واحد من الخاطفين، أحيل بعدها إلى المحاكمة. وقد أبرزت تحاليل الطب الشرعي، أن حوالي 22 من رفاقه في السلاح، من مدمني المخدرات وفي حاجة ماسة إلى تناول المخدرات. ولازالت مسألة كشف هويات هؤلاء محل تمحيص. تبنى هذه العملية شامل باساييف، وقد أدانها الناطق الرسمي لما يعرف بحكومة الشيشان بالمنفى (مقرها لندن)، أحمد زاكاييف.

ملحوظات مهمة

من أجل تنظيم هجوم بيسلان، لم يسع شامل باساييف التعويل على قوات مسلحة. فقد استعمل بعض مدمني المخدرات الممتهنين تجارة المخدرات، والمدربين من طرف بعض المحاربين. السيد باساييف لا يتمتع بمصداقية بالشيشان وليس له أنصار. فهو يمثل مقاتل ذو مشوار طويل من العمالة في كثير من الصراعات، منتهيا إلى ممارسة النشاط السياسي بالشيشان، دون الانقطاع تماما عن العمليات العسكرية.
لقد كان مخططا لهذه العملية أن تنتهي بمجزرة رهيبة. فقاعة الرياضة بالمدرسة قد شحنت أسقفها بكم هائل من القنابل. خطة في غاية الخطورة والدقة، حتى إننا لنتساءل كيف أمكنها أن تصمد لمدة ثلاثة أيام كاملة. ويبدو أن هذه المجموعة العسكرية كانت على استعداد لأن ترمي بنفسها وسط الجحيم مقابل الفرار من ملاحقة قوات الأمن التي تحاصر المكان، لكن الظروف خذلتها.

لم تعلن المجموعة عن مسئوليتها قبل اليوم الثاني، بمعنى قبل وصول الصحفيين الأجانب. ثم جاء إعلان المسئولية والذي كان غير موضوعي ويعكس شكلا أكثر منه مضمونا. الهدف كان إذن خلق حالة من الأزمة الفعلية، وليس المزايدة على أي شيء كان.

لقد جاءت عملية الاختطاف هذه ثلاثة أيام بعد الانتخابات الرئاسية بالشيشان، وسويعات قليلة بعد انتهاء القمة الثلاثية الروسية، الألمانية والفرنسية بمقاطعة سوشي، والتي حيت فيها هذه الأطراف مسعى التسوية السياسية في الشيشان. ويتبدى هنا المغزى الحقيقي منها، والذي كان إسقاط الاعتراف الدولي الذي حازه الرئيس فلاديمير بوتين بشأن التمكين لمسار الديمقراطية بهذا البلد.

سقوط الأقنعة

ومع مناسبة ذكرى مأساة بيسلان الرهيبة، صدر مرسوم دولي بالقبض على شامل بيسلان، غير أن هذا الأخير كان قد أجرى حديثا حوارا على قناة تلفزيونية أمريكية. ثم ما لبث أن تقلد منصب رئيس الوزراء بحكومة الشيشان بالمنفى والتي لها مقر بكل من لندن و واشنطن، الدولتان اللتان قد سبق لهما وأن أدانتا عملية بيسلان. وهنا يتجلى الانقسام بين زعماء أوروبا الغربية الذين يناصرون استقلال الشيشان، ويدعمون بغية ذلك " المتطرفون" مثل باساييف (مع أن كل الغربيين أدانوا عملياته)، وبين "المعتدلين" الموالين للحكومة المؤقتة " (والتي ينتقد الرئيس بوتين في رفضه التحاور معهم).

حكومة المنفى هذه، حكومة مدعومة من قبل ما يعرف باللجنة لأمريكية لدعم السلام بالشيشانl’American Committee for Peace in Chechnya
والتي يترأسها المستشار السابق للأمن القومي الأمريكي زبيغني بريزينسكي، المتربع على مكاتب ما يعرف ببيت الحرية
 [11].Freedom House لمؤسسها الأول جايمس ووسلي، رئيس المخابرات المركزية الأمريكية السابق.
ويعلن شامل باساييف صراحة عن علاقته بأسامة بن لادن، والذي تلوح الولايات المتحدة بالبحث عنه عبر كل السبل.

عرف السيد بريزينسكي بإدماجه لأسامة بن لادن، عندما كان هذا الأخير يعيش ببيروت، بعدما كلفه بتدبير سلسلة عمليات هجومية بأفغانستان، استفزت الاتحاد السوفييتي إلى التدخل العسكري بهذا البلد. وفي معظم مؤلفاته، لم يتوانى السيد بريزينسكي عن دعوته المحمومة إلى تفكليك الاتحاد السوفييتي بل حتى الفدرالية الروسية، ودعمه لكل الانفصاليين ماداموا يعادون روسيا.

ما يمكن استخلاصه

عملية بيسلان قد دبرت من طرف عملاء، وليس من طرف انفصاليين مسلحين. فهي ليس عملية تحررية تهدف إلى الدفاع عن قضية مشروعة، سواء كانت تلك القضية الاستقلال عن الشيشان، أو إقامة حكم الخلافة. هي عملية "ضمن اللعبة السياسية الدولية"، وتجري في سياق التمكين لدول الكبرى من وضع يدها على منطقة بحر قزوين وثرواته الخصبة. ومنفذها شامل باساييف هو اليوم نائب ريس وزراء لحكومة بالمنفى، تجد متكأ لها بلندن وواشنطن. هذا الرجل يملك كل الوسائل اللوجستية الضرورية التي تزوده بها الولايات المتحدة، عن طريق قنوات غير رسمية تابعة لوكالة الاستخبارات المركزة الأمريكية.

ترجمه خصيصا لشبكة فولتير: رامي جميع الحقوق محفوظة 2005©

بالتعاون مع مراسلين صحفيين بفرنسا، اسبانيا والممكلة البريطانية المتحدة، نظم المعهد الأوروبي للتعددية السياسية، محاضرة بلندن، باريس ومدريد، بهدف إحياء ذكرى فاجعة بيسلان الأليمة.

وما بين الفاتح والثالث من شهر سبتمبر 2005، وعلى امتداد الشوارع الرئيسية لكل من العاصمة الفرنسية، الاسبانية والإنجليزية، تحركت قافلة تذكارية تحمل مجسما كبيرا لدب مصور، وهو يحمل لافتة كتب عليها بخط عريض
" لا تنسوا بيسلان" و " الإرهاب الدولي ليست لعبة أطفال".

يوم الثالث من سبتمبر 2005 على الساعة منتصف النهار، تم تجمهر حاشد حول هذا المجسم التذكارين في كل من العواصم المذكورة. والجميع يمكنهم إدانة هذه الجرائم اللا إنسانية بزيارتهم للموقع التالي:

لاتنسوا بيسلان

[1مثال: الدراسة التي قدمها الدكتور مارك سميث لصالح أكاديمية الدفاع البريطاني "Beslan – The Political Fallout ".

[3نوجه عناية القارئ الكريم إلى الأبواب الثلاثة لبول لاباريك : حرب الشيشان الأولى، ارهاب وتجارة بموسكو و اللعبة الشيشانية، أعداد فولتير:11،7،4 ماي 2004.

[4روسيا المسلمة : فولتير 28 جوان 2005.

[5« El Algujero negro de Chechenia » par Franciso Veiga, El Periodico, 6 septembre 2004.

[7"خفايا الانقلاب بجورجيا" فولتير 7 جانفي 2004.

[8« Coups de maîtres sur l’échiquier géorgien »فولتير 19 مارس2004.

[9اسم هذه العملية "خالد الاسلامبولي" يذكر باسم الشخص الذي اغتال أنور السادات بمصر في السادس من أكتوبر 1981.

[10مرجع ارشيف الأمم المتحدة:ONU : S/PRST/2004/31.