يروي الكاتب فرانسيس ستونر سوندرز في كتاب (( الحرب الباردة الثقافية )) قصة الحرب الباردة الثقافية ، التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية ، يقول :

(( كانت الوكالة منذ فترة تستهويها فكرة ما : هل هناك من هو أفضل من الشيوعيين السابقين لمكافحة الشيوعية ؟ و بالتشاور مع كوستر ( أحد الأشخاص الأساسيين المؤسسين للحرب الباردة الثقافية ) بدأت تلك الفكرة تتجسد ، كان من رأيه أن تدمير الأساطير و الخرافات الشيوعية يمكن أن يتحقق فقط عن طريق تعبئة أولئك اليساريين من غير الشيوعيين في حملة واسعة للإقناع ، كان الذين يقصدهم كوستلر من جماعة اليسار غير الشيوعي – يعملون في وزارة الخارجية و دوائر المخابرات . و عن طريق ما يصفه آرثر شليزنجر "بالثورة الهادئة " أصبحت العناصر الحكومية تفهم و تؤيد أفكار أولئك المثقفين الذين ضللتهم الشيوعية و إن كانوا لا يزالون مؤمنين بمباديء الإشتراكية ( أي الذين ارتدوا عن الشيوعية )

و بالفعل سوف تصبح استراتيجية تقوية " اليسار غير الشيوعي " هي الأساس النظري للعمليات السياسية لوكالة المخابرات المركزية "CIA"" ضد الشيوعية على مدى العقدين التاليين . أما الأساس المنطقي لهذه الإستراتيجية التي حققت الوكالة تقارباً – و ربما تطابقاً – مع المثقفين اليساريين ..))

و يتابع الكاتب :

(( أما الافتراض النظري الذي شجع و دفع كل هذه التعبئة لليسار غير الشيوعي ، فكان مدعوماً بشدة من شيب بوهلن و أشعيا برلين و نيكولاس نابكوف ....الخ ، كما ذكر شيلزنجر فيما بعد : كنا نشعر جميعاً أن الاشتراكية الديمقراطية ( غير الشيوعية ) هي الحصن المنيع ضد الشمولية ( الشيوعية ) و أصبح ذلك تيارا تحتيا- ربما سرياً – في السياسة الخارجية الأمريكية أثناء تلك المرحلة ، و هكذا أصبح الاسم المختصر ( اليسار غير الشيوعي ) مسمى شائعاً في لغة الدواوين الحكومية في واشنطن بل إنه كما ذكر أحد المؤرخين رمزا لجماعة تحمل بطاقة معينة .))

و تنوع هذا البرنامج من نشر كتب و روايات لشيوعيين تائبين إلى دعم جماعات و أحزاب و إقامة مؤتمرات كل ذلك بتمويل خفي من وكالة المخابرات المركزية CIA فظهرت كتب مثل "الإله الذي فشل" و "الأوهام الضائعة" . يقول المؤلف :

(( تحت غطاء الإله الذي فشل تم دوير أولئك الذين كانوا يقومون بالدعاية للسوفييت سابقاً و تم غسيلهم من بقع الشيوعية و احتضانهم من قبل مخططي الحكومة الذين وجدوا في فرصة تحولهم فرصة لا تقاوم لتحطيم آلة الدعاية السوفيتية التي كانوا يزودونها بالزيت ذات يوم ، و الآن أصبحت جماعة الإله الذي فشل ماركة مسجلة تستخدمها وكالة المخابرات المركزية CIA ، و ترمز إلى ما كان يطلق عليه أحد الضباط " جماعة المثقفين الذين تحرروا من الوهم " و الذين يمكن أن يتحرروا منه ، أو الذين لم يتخذوا موقفاً بعد ، و الذين يمكن أن يؤثر أقرانهم بدرجة ما على خياراتهم ))

و اليوم في مواجهة تيارات الإسلام الجهادي تستعاد القصة و بنفس حذافيرها ، فبعد نهاية الحرب الباردة رأينا الدوائر الغربية تحتضن بعض اليساريين ليتبنوا التطبيع مع الكيان الصهيوني ، و ليسخروا من القومية العربية ، و من روح المقاومة لدى الشعب العربي ، و بعد أن تصاعد مد تيار الإسلام الجهادي ، كما رأينا في السنوات الماضية ، انتقلت هذه المجموعة من اليساريين إلى مهاجمة هذا التيار لكن هذا أمر قليل الجدوى ، إذ ليس بالأمر العظيم أن يهاجم يساري سابق تياراً دينياً لأن المنطقات الفكرية لدى الطرفين مختلفة ، فانتقلت الدوائر الغربية إلى تطبيق نفس خطة الحرب الباردة الثقافية ضد الإتحاد السوفييت ، ليبدأ البحث عن "اسلاميين غير جهاديين " لتقويتهم و نشر أعمالهم كي يتمكنوا من شق صفوف التيار الجهادي و خلق بلبلة في قاعدته الاجتماعية و التشكيك بمنطلقاته الفكرية .

و ما نذكره ليس من باب التخمين بل إنه استراتيجية معلنة و قد ورد في تقرير لمؤسسة راند و منشور بترجمته العربية على موقع دورية العراق . يبدأ القرير بتوصيف الوضع الإسلامي . فيقول أنه ليس هناك شك من أن الإسلام المعاصر يعيش حالة من الاضطراب والغليان، وحالة من الصراعات الداخلية والخارجية حول قيمه، وهويته، ومكانته في العالم اليوم، وذلك بسبب وجود العديد من المذاهب المتنافسة التي تطمح للحصول على الهيمنة الروحية والسياسية. ولذا فإن لهذا الصراع تكاليفه الباهظة والبالغة الخطورة، وتأثيراته المتعددة على الجانب الاقتصادي، والاجتماعي والسياسي. ونتيجة لهذه التغيرات فإن الغرب يبذل، جهوداً كبيرة لفهم هذه الصراعات وبالتالي محاولة التأثير على نتائجها.وتتمنى الولايات المتحدة الأمريكية ، والدول الصناعية العظمى وكل المجتمع الدولي أن يكون العالم الإسلامي متماشياً مع باقي الأنظمة العالمية، بحيث يكون ديموقراطياً، محققاً للنمو اقتصادياً، مستقراً سياسياً، متقدماً اجتماعياً، ومتتبعاً لآليات وأنظمة المجتمع الدولي، كما أن هذه الأطراف تريد منع حدوث "صراع الحضارات" بكل ما تحمله هذه العبارة من معان؛ من صراعات بين الأقليات المسلمة ومواطني الدول الغربية، إلى تزايد التيارات الثورية في العالم الإسلامي، وما يترتب عليها من عدم الاستقرار و"الإرهاب".

و يصنف التقرير المسلمين إلى الأصوليين والتقليديين و العصرانيين و العلمانيين. و يوصف التقرير بشكل إيجابي ما يسميه بالإسلام التقليدي مقابل ما يسمونه بالإسلام الأصولي ((إن "الإسلام التقليدي" يتضمن عوامل ديموقراطية يمكن من خلالها مواجهة وصد سلطوية "الإسلام الأصولي"، لكنه لا يمثل وسيلة ملائمة أو دافع لتحقيق "الإسلام الديموقراطي". إن هذا الدور يقع كاهله على الإسلاميين العصرانيين ، الذين يعترض طريقهم وفعاليتهم عوائق وقيود تحد من تأثيرهم، وهو ما نحاول التعرض له في هذا التقرير.))

يقترح التقرير تشجيع التقليديين و العمل على نشر أفكارهم و منع أي تحالف بينهم و بين الأصوليين و تحسين و تطوير أدائهم في المناظرة ضد الأصوليين ،كما يقترح تشجيع فرق الصوفية . و بالطبع دون أن يعني ذلك التخلي عن العلمانيين أو اليساريين المتعاطفين مع الغرب . لكن الجهد الأساسي يجب أن ينصب على ما يمكن تسميته "الإسلاميين غير الجهاديين " على غرار الاهتمام " باليساريين غير الشيوعيين " أثناء الحرب الباردة ، لأنهم الأقدر على تفكيك الخطاب الجهادي و إدخال الشك إلى تعابيره و مفرداته ورؤاه . وكل ذلك إعادة تطبيق كل ما سبق و طبقوه في الحرب الباردة الثقافية ضد الشيوعية . لكن هذه المرة في سياق محاربة الإسلام الجهادي .

إن هذه الخطة يتم تطبيقها على الأرض بشكل حثيث و للأسف فإن اسم الإمام الراحل حسن البنا حاضر فيها بقوة ، إما عن طريق جمال البنا شقيقه ، و ذلك عبر دعاويه المثيرة للشقاق و الجدل و المحتضن بقوة من قبل أوساط الليبراليين الجدد ، أو عن طريق حفيده طارق رمضان ، الذي يوصف بأنه مفكر إسلامي و قد عينته الحكومة البريطانية قبل أيام مستشاراً لمكافحة التطرف الإسلامي ، كما قالوا !!!

كما نشير إلى الأخبار التي تسربت قبل عدة أشهر عن لقاء بين إحدى أكبر جماعات الإسلام السياسي و الولايات المتحدة الأمريكية ، والتي إذا ما صحت ستكون أمراً مثيراً للقلق لأن ذلك يعني انخراط شرائح واسعة محسوبة على الإسلام السياسي في برامج الولايات المتحدة للسيطرة على العالمين العربي و الإسلامي ، لذلك ننبه الوطنيين المنتمين لهذا التيار ، و نعتقد أنهم يشكلون أكثرية هذا التيار ، أن يكونوا واعين لما يدبر لهذه الأمة ، فقد يصبح البعض منهم بوعي أو بدون وعي أدوات تنفيذ لهذه المخططات الجهنمية

مصادر
موقع الرأي (سوريا)