بحث الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) حديثاً «مسودة الدستور الإسرائيلي» التي أعدّها «المعهد الإسرائيلي للديمقراطية»، وأطلق عليها اسم «دستور بالوفاق»، أي بموافقة وقبول كل «مواطني إسرائيل»، من ضمنهم الفلسطينيون داخل الخط الأخضر. لكن الفلسطينيين الذين اطلعوا على بنود الدستور المقترح استهجنوا: «دستور بالوفاق.. أي وفاق؟».

امتنعت إسرائيل منذ قيامها عن وضع دستور، وارتكزت على ما يسمى بـ «قوانين أساس الكنيست». ومنذ عشرات السنوات حاول الاختصاصيون صياغة دستور يرضي جميع الأطراف إلا أن المحاولات لم تتعد حيز الاقتراحات وظلت عالقة في مكاتب الاختصاصيين نتيجة رفض الكثير من الفئات الإسرائيلية وعلى رأسهم المتدينون اليهود الرافضون لفكرة الدستور أساسًا ويؤمنون بأنّ «التوراة» هي دستور الدولة وليست اقتراحات صيغت حديثًا.

وتجنب مؤسسو إسرائيل التوترات الزائدة بين شقي المجتمع العلماني والمتدين لذا تأجل الموضوع مرارًا. ولكن اليوم القضية تختلف بسياقها، ويبدو اقتراح «المعهد الإسرائيلي للديمقراطية» جديًا أكثر من أي وقت مضى في الوقت الذي يجمع عليه سياسيون وخبراء قانون فلسطينيون في الداخل على أنّ هذه المسوّدة ترسخ «يهودية الدولة» الى حد لم يسبق له مثيل في اقتراحات سابقة.

وقاطع العضو العربي الوحيد في «لجنة القانون والقضاء والدستور» التابعة للكنيست د. عزمي بشارة، جلسات اللجنة إثناء بحثها في المسودّة المقترحة من قبل «المعهد الإسرائيلي للديمقراطية»، وكتب في المقابل ثلاث أوراق موقف تناقش وتعترض في قسطها الأكبر على مسوّدة الدستور.

وبادر بشارة إلى حلقات بحث للدستور المقترح كذلك المشاركة في ندوات نظمتها مراكز أبحاث فلسطينية في الداخل على رأسها مركز «مدى» الكرمل للدراسات الاجتماعية التطبيقية.

ويقول بشارة لـ «البيان»: «لا بد من أنّ الهدف الأساسي هو تفصيل معنى يهودية الدولة، وهناك لجنة خاصة لهذا الغرض كي لا تبقى اليهودية مجرد عنوان. ويقومون بهذا بشكل مكثف وقومي متطرف غير مسبوق في الدساتير الديمقراطية ولا حتى في غير الديمقراطية. لتكثيف المكانة القومية بشكل غير مسبوق. وهذا من ناحية العرب يمس بالمساواة».

وأضاف: «هناك محاولة لمقايضة الموضوع مع تثبيت مسائل تتعلق بالمساواة وحقوق المواطن ومحاولات غير جدية للاعتراف بالحقوق الجماعية للعرب.

ولكن بالمجمل، المحاولة الأساسية متعلقة بتثبيت يهودية الدولة مما يثّبت العرب كرعايا مهما اجتهدوا في مسألة المواطنة. هناك تثبيت لقانون «العودة» وحق اليهود التاريخي وتثبيت المؤسسات الصهيونية ومسألة الأرض. وهذه هي القضايا الخلافية الأساسية».

وتابع: أنا باعتقادي لا يوجد طريقة ولا يمكن أصلاً القبول بمثل هذه الاقتراحات وعلينا مواصلة النضال من أجل المساواة. ولا يوجد أي طريقة أيضا تجمع القبول بيهودية الدولة والنضال من أجل المساواة في آن واحد. وسأحاول إقناع الجمهور العربي بعدم قبول هذه الصفقة التي تبدو وكأنها براغماتية وهي في الواقع مغرقة في العنصرية».

وفي رده على سؤال «إلحاح المؤسسة الإسرائيلية» على صياغة الدستور الآن وبالذات؟ قال بشارة «حسب رأيي هذه المحاولة هي أكثر جديّة من قبل بالنسبة للمنظمات من خارج وداخل الكنيست والتي حصلت على تمويل كبير له علاقة بتثبيت الغالبية اليمينية في الكنيست وقدرتها إلى حد ما يصل المناورة لاستبدال الأحزاب الدينية.

ولا يوجد اليوم أي حزب ديني في الائتلاف الحكومي. وهذا لا يعني أن المسّودة ستنجح ولكن هناك قوة يمينية صلبة وكبيرة ولقاء مصالح بين اليمين واليسار الصهيوني (المطالب الدائم بالدستور)».

وأضاف «هناك صراع تاريخي بين اليمين البرلماني والمحكمة العليا، وهناك قصد أساسي لتقييد أيدي المحكمة العليا لوضع قوانين تمنعها من تشكيل القانون أكثر ما يجب بشكل ليبرالي».

وزاد : « مهمة الحركة الوطنية هي الحفاظ على الهوية الوطنية والنضال من أجل المساواة وهذه هي مهمتنا. عليك أن تكون وطنيًا فلسطينيًا وقوميًا عربيًا وأن تناضل من أجل المساواة وإذا فرطنا في جانب واحد من هذه الجوانب لا شرعية لوجودنا في الكنيست».

ولا يتطرق الدستور المقترح إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ولا ينكر القائمون «عدم انتظارهم» لحل بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

وتشدّد مسودّة الدستور المقترح على نقاط يعتبرها الإسرائيليون «غير قابلة للنقاش» وترتكز على «وثيقة الاستقلال» الإسرائيلية كأساس لها. ويشّكل التقويم العبري تقويماً رسميا للدولة حسب المسودة مع الإجماع على أن تكون الدولة دولة «يهودية وديمقراطية» والعبرية لغتها الرسمية(مع إعطاء العربية مكانة غير ملزمة).

يظهر أيضا من خلال المسودة محاولة لتعزيز الهيمنة الإثنية عن طريق افتتاح الدستور بوثيقة الاستقلال التي تحدد المنظومة العقائدية لمواطني الدولة. وتعترف المسودة بتاريخ الشعب اليهودي وحضارته وميراثه وذاكرته الجماعية متجاهلة في هذا تاريخ الفلسطينيين المتواجدين على الأرض حتى هذه الساعة. وعرضهم في أحسن الأحوال على أنهم مهاجرون لا أكثر.

ويقول المحامي، المدير العام للمركز القانوني للدفاع عن الأقلية العربية داخل إسرائيل «عدالة» حسن جبارين لـ «البيان»: «وجود وثيقة الاستقلال الإسرائيلية كافتتاحية ومرجعية الدستور من شأنها إعادة القوة للمؤسسات الصهيونية والتشديد أكثر عليها. وهذه المسودة المرتكزة على وثيقة الاستقلال تتعامل تعاملاً لا ينعكس على أرض الواقع.

لا بل هو عكسي تمامًا. المسودة تتعامل وكأن اليهود هم أقلية والعرب هم غالبية. أنا قرأت الكثير من الدساتير والمسودات وبرأيي أن هذا الدستور هو الأكثر سوءًا والأخطر».

وأضاف جبارين: «القضايا شائكة ومعقدة وما يبدو هامشيًا لنا اليوم هو بمثابة ضرورة ملّحة مستقبلاً وعلى سبيل المثال لا يمكن اعتبار قضية اللغة الرسمية والتقويم العبري قضايا هامشية والعكس هو الصحيح، فالقوة تكمن بالذات في الرمزية التي تتجسد في ترسيخ أمور إضافية تبرر من دون تردد القيم الاثنية والدينية. وسيكون تدخل المحاكم العليا في قرارات المحاكم الدينية والأحوال الشخصية محصورًا».

وقال : «يحاولون من خلال هذا الدستور تفريغ البلاد من السكان العرب الحاضرين فيها وتحويلهم إلى غائبين في السياق الكامل لمبدأ المواطنة ويعرض العرب وبأحسن الأحوال كمهاجرين قدموا إلى إسرائيل».

وقال النائب العربي في الكنيست محمد بركة، لـ «البيان» عن الدستور: «على الدستور أن يكون نتاجاً لحوار يناقش على أساس ديني وعلى أساس قومي وأساس مدني. كان دور الفرنسيين حاسمًا في ما يتعلق بدستور كندا رغم أنهم خمسة في المئة فقط من كندا».

وأضاف: «موقفنا كان مع سن دستور لإسرائيل يؤسس الحقوق الديمغرافية بشكل مبدئي ويعطي حقوق الأقلية من ناحية مدنية وقومية ويحدد علاقة الدين مع الدولة. ولكن المساعي الجارية الآن هي لسن دستور يؤسس المصالح العرقية لإسرائيل.

بمعنى آخر، الدستور يؤكد على يهودية الدولة وتتجاوز المسودة أيضا تعريف الجماهير الفلسطينية كأقلية قومية. ولا يجري الاعتراف بها ولا يجري الحديث عن حدود الدولة لتظل أمرًا مفتوحًا وهذه قضية في غاية الخطورة. وتترك الموضوع لرحمة رأس المال وهذا يضر بنا».

وفي وسيلة لتغليف القضية وتجريدها من سياقها الوطني وإسقاطاتها على الأقلية الفلسطينية في إسرائيل، قام «المعهد الإسرائيلي للديمقراطية» بإجراء استطلاع لرأي الأقلية الفلسطينية في الداخل في قضية «مسودة الدستور المقترحة».

وأظهر الاستطلاع أنّ غالبية الفلسطينيين «يؤيدون» المسودة. ولكن الحقيقة هي أنّ المعهد الإسرائيلي لم يتطرق أصلاً للقضايا الوطنية والأساسية التي على واضعي الدستور أخذها في عين الاعتبار.

وكتب مدير مركز «مدى الكرمل» (مركز الأبحاث للدراسات التطبيقية)، نديم روحانا، قبل فترة وجيزة مقالاً تطرق من خلاله إلى «المتاهة» في استطلاعات الرأي ونشر معطيات جديدة تتناقض كليًا مع نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية. وينفي ما ادعاه المعهد من «إجماع عربي على الدستور المقترح».

بحيث أظهر استطلاع «مدى الكرمل» أن 94 في المئة من الفلسطينيين في الداخل يعتبرون الصهيونية هي حركة عنصرية و87 في المئة اعتبروا قانون العودة الإسرائيلي عنصريًا جدًا و95 في المئة من الفلسطينيين قالوا إن لا حق لليهود القدوم إلى إسرائيل أيضًا.

و67 في المئة اعتبروا إسرائيل ليست ديمقراطية وتبين في النهاية وحسب تحليل بروفيسور روحانا أن المعهد الإسرائيلي للديمقراطية لم يتطرق إلى القضايا العالقة والأساسية والتي هي القضية أساسًا واكتفى بطرح المسلمات على المستطلعين الفلسطينيين لتكون النتيجة كما عرضها.

وتطرق المعهد إلى سبع نقاط وهي: إسرائيل كدولة تضمن الحقوق الجماعية والتعليم المجاني والاعتراف بالأقلية العربية وإسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية وإسرائيل كدولة تضمن الحقوق المتساوية للعرب وتضمن الحرية الدينية.

وعندما طرحت هذه القضايا على المستطلعين الفلسطينيين أدرجت حسب «الدولة اليهودية الديمقراطية» في آخر سلم أولوياتهم. مما يستدعي التفسير. ولم تطرح القضايا للعرب بصيغة اللازمة لطرحها. وهنا كانت محاولة التمويه.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)