الإصرار على وضع مقاييس للحاضر استنادا إلى الماضي ينسحب اليوم إلى مجال خارج المرجعيات التراثية .. فالماضي ليس بالضرورة صورة الأمس البعيد. والمقاربة لا تكون في معظم الأحيان قياسا على زمن زاهي، هذا على الأقل ما نفهمه من بعض التصريحات أو المقالات التي تتحدث عن أن "كرامة المواطن" أهم من "تراب الوطن"، أو ان "الشأن الداخلي" هو الأساس بينما "القضايا الكبرى" كانت نتيجة الحلم الإيديولوجي. فهذه المقاربات التي تحمل في جوهرها نوعا من إلقاء المسؤولية على المراحل التاريخية لما بعد الاستقلال، لا تختلف في جوهرها عن أي مثال يقدمه لنا أمام تراثي، مازال حلم الماضي يلمع في داخله، لن عقلية المقاربة واحدة.

من يحاول اليوم تسليط الضوء على حقوق الإنسان ومسائل الحريات يقدم خطابه وكان هناك خلاف حول هذه المسألة .. أو كأن الإيديولوجيات ونظم الأفكار التي انتشرت منذ مطلع القرن الماضي كان هدفها قمع الحريات واستبداله بمطلقات أخرى. فهل يمكن فهم نوعية العلاقة بين تراب الوطن وكرامة المواطن على أنها صراع أبدي. وهل التراب والكرامة مطلقات يمكن دفعها لنسف كافة المفاهيم؟!!

المسألة الأساسية كما تبدو من المقاربة هو وضع أولويات، ولكن آلية الأولويات في مثل هذه المواضيع لا تصح، لأن كافة التعريفات التي نطلقها اليوم حول الوطن والمواطن والحقوق والدولة هي وليدة حالة كلية، ونتيجة للحداثة ومؤسساتها التي ظهرت وتطورت منذ عصر النهضة الأوروبي. ومن المستبعد وضع أولويات في مثل هذه المواضيع، فكيف نتحدث عن كرامة مواطن دون وطن مصان ودولة عصرية وثقافة اجتماعية قادرة على قراءة المفاهيم المعاصرة بشكل ديناميكي.

الأولويات اليوم هي مسألة إجرائية ينتجها عقل ما قبل الحداثة .. والمجتمع السوري بكل خصائصه هو الحاضر الذي يحتاج لدخول ثقافي إبداعي جديد قادر على إنتاج ذاته بشكل يتوافق مع الغد.. كرامة المواطن هي الأساس .. وتراب الوطن هو الأساس .. والقضايا الكلية ستبقى كلية إذا لم نستطع إخراجها من أزمة العقل الماضوي لتحدث التغيير الاجتماعي المطلوب لسورية.

إن مطالب الحداثة لا تختلف عن عملية الإصلاح .. ولكن يبدو البعد الإجرائي يطال الموضوعين، بينما يبقى "البعد النقدي" في إطار نقد النظام السياسي، وكأن هذا النظام منفصل عن الثقافة الاجتماعية، أو كأن الثقافة الاجتماعية قادرة على إنتاج أعلى صور"الليبرالية".