هناك قوى نووية ترفض الولايات المتحدة (ومجلس الأمن، بالتالي) ذكر اسمها: إسرائيل، وهناك دول نووية تبدأ واشنطن بفرض عقوبات عليها ثم تنساها ثم تعزز تحالفها معها ثم تعقد معها اتفاقات ذات بعد... نووي (الهند، والى حد أقل باكستان).هناك دول تقول إنها تملك أن تصنع قنبلة نووية، إلا أن واشنطن تحاورها في إطار مفاوضات سداسية، وتصر على إنكار أنها دخلت، أو كادت، النادي النووي وتنكر عليها ما هو أبسط منه، الحق في برنامج نووي سلمي: كوريا الشمالية.

وهناك دولة تخوض معها الولايات المتحدة حواراً غير مباشر وباتت تسلم لها بامتلاك برنامج نووي سلمي، إلا أنها تصر على وجوب عدم تمتعها بالعلم النووي الخاص بالدورة الكاملة: إيران.التناقضات لا تحصى إلا أن أميركا تعيشها ببساطة، وتعيش أكثر أيضاً طالما أنها لا تكف عن دعوة الآخرين الى التوقيع على معاهدات دولية لحظر انتشار السلاح النووي في حين أنها تمتنع، بنفسها، عن التوقيع.

ثمة مراقبون كثيرون يتهمون الإدارة الحالية بأنها لا تفعل ، عملياً، سوى الحض على انتشار هذه الأسلحة، يضربون مثالاً على ذلك غزوها للعراق وترددها أمام إيران وكوريا، فالتردد يشجع هذين البلدين كما أن الغزو يدفع بهما دفعاً نحو امتلاك قوة رادعة طالما أنهما مصنّفتان ضمن «محور الشر».

الا أن المطلوب البحث عن «الخطأ» الأميركي في مكان آخر، ليس في سياسة حيال هذه الدولة أو تلك، وليس في تناقض السياسات بل في ما تتجه الولايات المتحدة الى اعتماده من استراتيجية جديدة.لقد أعلن ، بشكل رسمي، في واشنطن أن رئاسة الأركان وضعت استراتيجية جديدة تقوم على «الضربة النووية التكتيكية الاستباقية» أي أنها لن تنتظر تعرضها الى هجوم نووي لترد، بل ستبادر الى «الاستباق» حتى لو كانت الجهة «المعادية» غير نووية.

وتأتي الاستراتيجية الجديدة ترجمة لما سبق أن أعلنه جورج بوش قبل ثلاث سنوات من «عقيدة دفاعية» قوامها أن المخاطر الجديدة غير متوقعة، بما يسمح للولايات المتحدة أن تبادر ، بمجرد الشبهة، الى «الاستباق» حتى لا تجد نفسها ضحية جهات غير منضبطة، ويصعب تقدير سلوكها.

ومن نتائج هذه الاستراتيجية أن واشنطن ستندفع نحو تحديث ترسانتها النووية وتغيير تركيبتها، فالأسلحة النووية التقليدية مازالت تكتسب أهميتها إلا أنها غير مطابقة للعصر الجديد حيث الخصم ليس، بالضرورة، دولة نووية تقدر على توجيه ضربة استراتيجية إلى أميركا.

ومن يقل «تحديث» الترسانة يقل، في الوقت نفسه، تطوير ما هو موجود وإنفاق عشرات ملايين الدولارات على إنتاج أسلحة جديدة.عندما وضعت هذه العقيدة، جرى تحديد الدول «المعنية» بها: الصين، كوريا الشمالية، العراق، إيران، سوريا، ليبيا، ولكن منذ ذلك الوقت حصل ما حصل في العراق، وتغيرت ليبيا ، وبقيت دول بعضها نووي وبعضها غير ذلك.

تحدد العقيدة الجديدة حالات الاستخدام الميداني لأسلحة نووية تكتيكية:

- في حال قدرت واشنطن أن عدوا ما قد يلجأ إلى أسلحة دمار شامل ضد أرضها الوطنية أو مصالحها الاستراتيجية.

- في حال توفرت معطيات عن نية عدو شن هجوم بأسلحة بيولوجية.

- في حال توفرت معطيات عن منشآت معادية تنتج أسلحة دمار شامل.

- في حالات يكون للاستخدام فيها دور ردعي.

لا مبالغة في القول إن الانعطافة الأميركية تنسف، في غير مجال، كل ما توافق العالم عليه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتشار السلاح النووي الذي أدى إلى ردع متبادل.

أولاً: كان السلاح النووي، في العقل الاستراتيجي الأميركي، معروفاً بصفته سلاح «الضربة الأخيرة»، أي تلك التي تحصل في حال الفشل في صد هجوم بري واسع يطال المسرح الأوروبي، والوجه الآخر لذلك الامتناع عن أي تهديد يجعله «السلاح الأول».

ثانياً: كان يمنع إدخال هذا السلاح في «العادية» من أجل الاحتفاظ له بالقيمة الردعية اللازمة.

ثالثاً: لم يكن وارداً، ولا بأي شكل، استخدام النووي في مسرح العمليات بصفته قوة تدمير «تكتيكية» لأن ذلك يغير من طبيعة أي مواجهة.

رابعاً: كان محرّماً بالمطلق، التلويح، مجرد التلويح، باستخدام السلاح النووي ضد دولة غير نووية. والقصد من ذلك هو، بالضبط، تشجيع الدول الأخرى على عدم الدخول في أي سباق مسلح.

خامساً: ما كان محرماً، في حالة الدفاع عن النفس، بات مسموحاً في إطار استباقي أي في حال توفر الشبهة، وللعالم أن يدرك مخاطر ذلك بعد الفشل الاستخباري الذريع في العراق، كما أن للعالم أن يبحث في كيفية امتلاك وسائل التمييز بين ما هو خطر فعلي وبين ما قد تعتبره واشنطن، لأسبابها الخاصة، خطراً.

سادساً: لا يمكن القول إن «النووي التكتيكي الاستباقي» نتيجة من نتائج انتهاء «الحرب الباردة» ففي العقيدة الموضوعة أيام بيل كلينتون عام 1995، أي قبل عشر سنوات ، لم يؤت على ذكره أبداً.

سابعاً: لا يمكن النظر إلى هذه العقيدة بمعزل عن وجهها الآخر، اعتزام الولايات المتحدة تحصين نفسها بدرع ضد الصواريخ. فهذه الدرع تبدو للوهلة الأولى موقفاً دفاعياًّ، إلا أن الواقع غير ذلك. فالدولة التي تشعر أن أرضها الوطنية محمية يمكنها أن تلجأ بسهولة أكبر الى خطوات هجومية طالما أنها مطمئنة إلى أنها لن تدفع ثمناً. إن إسقاط «الردع المتبادل» يفتح باب العدوانية.

إن ما تفعله الولايات المتحدة عبر استراتيجيتها الجديدة يساوي أحد أمرين: إما تحويل العالم الى غابة سلاح غير تقليدي، وإما احتكار حق استخدام القوة ومنع أي قوة إقليمية من البزوغ الا إذا كانت مطواعة.يتوجب وضع هذه الحقائق في الاعتبار عند قراءة تطورات الملفين النوويين لكوريا وإيران ، وعند قراءة التصعيد ضد سوريا، وعند الرهان على أن التعثر الأميركي في العراق قد يكون حافزاً إلى انسحاب انطوائي.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)