سقط في العامين الأخيرين عشرات الإعلاميين والصحافيين صرعى الحروب في مناطق العالم الساخنة، كما سقط آخرون اغتيالاً واختفى غيرهم خطفاً، بعضهم عاد والبعض الآخر ينتظر، هذا إذا كان مازال حياً، وحكم على صحافيين بالسجن بتهم جنائية شكلية لا تقنع أحداً، بينما حقيقة التهم لا تتعدى عدم رضا جهات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، محلية أو دولية عن نشاط هذا الصحافي أو ذاك ورغبتها في التخلص منه، وغدا الإعلاميون والصحافيون محط نقمة كثيرين.

كما أصبحوا هدفاً لجرائم القتل (بالعمد أو بالصدفة) أو الخطف أو الاغتيال أو الحكم بالسجن لسنين طويلة. منذ تفجر الاتصال قبل عقدين (وهو ما سمي بثورة الاتصال) بدأ الإعلام يلعب دوراً أساسياً في تشكيل وعي المتلقي إن لم يكن الدور الأساس، وحل بذلك محل الأحزاب والتيارات الاجتماعية والقوى السياسية والمؤسسات التربوية التي كانت تجهد لتفعيل الحراك الاجتماعي وتشكيل وعي مجموعة من الناس تحازبها وتناصرها،وتؤثر على وعي المجتمع وتطور وجهات نظره وبالتالي أنماط سلوكه حسب مصالحها، وبهذا استطاع من يملك الإعلام أن يملك الرأي العام أو على الأقل يمكنه التأثير الفعال فيه.وغيّر الفلاسفة وعلماء الاجتماع نظرياتهم المتعلقة بالرأي العام وتكوينه، وأصبحت نظريات مدرستي فرانكفورت ونيويورك الفلسفيتين (والإعلاميتين) بحاجة لإعادة نظر وتبني مفاهيم جديدة للإعلام من جهة وتأثيراته من جهة أخرى، وقد أعادتا النظر فعلاً،خاصة وأنه أصبح من الصعب الانتصار في الحروب وإنجاح التنمية أو تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي، أو تطوير المفاهيم وسلم القيم، أو حتى بلورة الهوية الوطنية والثقافية بدون مساهمة جادة وواسعة من الإعلام، وقد برزت أهميته ودوره المركزي في كل شيء في حياتنا كما لم يكن من قبل، وصار امتلاكه هدفاً لجميع القوى السياسية والفكرية وسلاحاً يستخدمه المتنافسون والمتصارعون.
واستطراداً وجد الإعلامي والصحافي نفسه في أتون صراعات سياسية وقومية وإثنية ودينية لا تنتهي، وغدا حياد الإعلاميين والصحافيين من أصعب المواقف في ظروف العالم المعاصر المعقدة، ومطمحاً صعب المنال للإعلام والصحافة والإعلاميين والصحافيين، ودخل هؤلاء جميعاً طوعاً أو كرهاً في قلب هذه الصراعات،وأخذوا يتعرضون للقتل والاغتيال والسجن والطرد والإبعاد، خاصة وأن جميع المتصارعين، مهما كانوا ديمقراطيين، لا يحتملون نشاط إعلام لا يؤيدهم مباشرة أو مداورة أولا يأتمر بأمرهم، وينظرون للإعلام والإعلاميين نظرة ساذجة وغير عاقلة خلاصتها إما معنا أو ضدنا.

وبقدر انتشار وسائل الإعلام والاتصال وتزايد تأثيراتها بقدر ما ازداد تكالب الأنظمة السياسية والمجموعات الاقتصادية وذوي المطامح والمطامع عليها وحاولوا امتلاكها أو المشاركة في ملكيتها أو إغراءها بالإعلان أو بالرشوة والإفساد أو بغير ذلك من الأساليب لكسبها وتوظيفها، إذ لابد من ذلك لكسب المعركة وتحقيق الهدف، سواء كان هذا الهدف صغيراً أم كبيراً، سياسياً أم اقتصادياً أم ثقافياً.

في ظل هذه الشروط العامة لعمل الإعلام وللمفاهيم الجديدة لعالمنا وصراعاته ولسلم القيم الحديث الذي يتعامل مع هذه الصراعات والنواظم الأخلاقية الطارئة، لم تجد جهات كثيرة بداً (ولا عيباً) في أن تجبر وسائل الإعلام والصحافة على الرضوخ لمطالبها ومعاقبتها بأسوأ العقوبات وأكثرها بشاعة، فصار قتل الصحافيين والإعلاميين في الحروب أمراً هيناً وكذا اغتيالهم أو خطفهم أو سجنهم أو التنكيل بهم،واستسهل الجميع قذف الإعلام والإعلاميين بالتهم وتصنيفه وتصنيفهم في (خانة) الأعداء، والانتقام من البارزين منهم، ولم تنفع نداءات نقابات الصحافيين ومنظماتهم المهنية ولجان الدفاع عنهم ولا حتى قدرة وسائل الإعلام والصحافة التي يعملون فيها ونفوذها وسطوتها في رد غائلة الأذى الذي يلحق بها أو بهم.

وها نحن نشهد تتالي العقوبات على الصحافيين لأنهم يبحثون عن الحقيقة ويتناولون المعلومة بحياد ويبدون آراءهم بموضوعية ويقبضون على النار، وكلما أجادوا عملهم وأصبحوا محط الأنظار كلما ازداد الخطر عليهم. والمشكلة أن مهنة الصحافي لا تتوافق كثيراً مع الحذر، وعمله يقتضي الدخول إلى قلب الحدث،وما من أحد يحميه (كما تحمى الشخصيات السياسية أو الأمنية مثلاً) وينتهي أخيراً لأن يكون هدفاً سهلاً لأي معتد، وهذا ما يتواتر وما نشهده في بقاع العالم المختلفة، وخاصة في تلك التي تجافي أنظمتها الحريات ولا تؤمن بالتعددية ولا تهتم باحترام الرأي الآخر.

لو تساءل أولئك الذين يقتلون الصحافيين والإعلاميين أو يغتالونهم أو يزجون بهم في السجون عن جدوى تصرفاتهم هذه وفكروا قليلاً لتراجعوا عن ممارساتهم، ذلك أن وسائل الإعلام والصحافة أصبحت مؤسسات لها مهماتها التي لا يستطيع أحد الوقوف بوجهها، وذات دور لا يستطيع أحد إلغاءه، وما الصحافي أو الإعلامي إلا جزء من هذه المؤسسة وآلتها وآليتها،ولم يعد أمام الجناة في عصرنا إلا تغيير سلوكهم وأساليبهم وليس العمل على تغيير سياسات الإعلام أو القضاء على نشاطه أو الاعتداء على حرياته وعلى ناشطيه، لأن دور الإعلام المعاصر يشبه دفقاً هائلاً من المياه الهائجة بل من الأعاصير التي لا تنفع معها المعالجات الجزئية والتي لا ترد بإجراء هنا وأوامر هناك.

ريثما يتفهم الجناة ذلك، ويكفوا عن إيذاء الإعلام والإعلاميين، ويقتنعون أن الأمر مؤسسي لا يرتبط بشخص بعينه، وأن القدر واقع على رؤوسهم مهما علت، ريثما يتحقق ذلك فسيدفع الإعلاميون والصحافيون ثمناً غالياً، قد يخفف هذا العبء أنهم يحترمون مهنتهم ويضحون من أجلها ويبحثون عن الحقيقة ويؤمنون أن قبول الحرية والتعددية والرأي الآخر أصبحت نهج حياة، ويصرون على أداء دورهم العظيم في خدمة مجتمعاتهم وبلدانهم،وهو ـ على أية حال ـ الثمن الذي لابد من دفعه في مراحل الانتقال وأثناء الصراعات السياسية والعسكرية في عالم لم يصل إلى تحقيق السلام والاستقرار والأمن والعدالة وحق تقرير المصير. إن الاغتيال عملة كاسدة لا تنفع أحداً، هو كذلك الآن وكان دائماً كذلك، فلم تؤكد لنا أحداث التاريخ أن اغتيالاً سياسياً غيّر مجرى الأحداث، أو أن اغتيال صحافي بدل سياسات وسيلة إعلام،فالتغيير يرتبط بشروط موضوعية ليس بينها الاغتيال، وكل ما نشهده من اغتيالات أو ما يشبهها أو يقرب منها ما هو إلا ضرب من ضروب العبث وقصر النظر إن لم يكن انعدام الرؤية. لا يملك الإعلاميون والصحافيون سلاحاً إلا قلمهم يدافعون به عن الناس وعن الحرية والحقيقة وعن أنفسهم، وهو سلاح أخطر من أسلحة كثيرة تستخدمها الجيوش ويستعملها الجناة، وتأتي خطورته من غوصه في عمق الوعي الثقافي للفرد ومن مساهمته في تشكيل الرأي العام،مما يهدد عتاة الجبابرة والمستبدين، ولا أظن أن المخاطر التي تحيق بعمل الإعلاميين والصحافيين صغيرة كانت أم كبيرة سوف تثنيهم عن أداء واجبهم المهني أو الدفاع عن مجتمعاتهم، وسيبقون صوتاً للمظلوم والمقهور وحربة موجهة للظالم والمتغطرس، تلك هي مهمتهم وذاك هو واجبهم واختيارهم، وما العقوبات الموجهة ضدهم سوى قبض الريح.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)