عندما وصل المحقق الألماني ديتليف ميليس برفقة فريقه الدولي إلى بيروت, لم يكن ليخفى عنه أبدا أنه أمام مهمة شاقة وصعبة, ولكن هاجس تفجير ملهى لا يبل بألمانيا, الذي كلف التحقيق فيه فيما مضى واستغرق الوصول للجناة فيه سنوات عديدة كان ماثلا أمامه بالتأكيد.

كان الشاغل الأساسي لميليس في أيامه الأولى أن يتجاوز التحدي بسرعة, بما يحول دون تحول التحقيق في اغتيال الحريري إلى مسلسل درامي طويل كما كانت الحال مع سابقه ملهى لا يبل .

وصل ميليس إلى بيروت محملا مع فريقه بآلاف الصفحات من التقارير عن الجريمة, والتي كانت بمعظمها ذات مدلولات سياسة, لا جرمية , وتتركز في ثلاث مصارد : إسرائيل أكثر السعداء بما حصل والأردن عرابة الاستخبارات الأمريكية في المنطقة وقبرص , حيث المراكز الكبرى للاستخبارات البريطانية .

ثلاث فرضيات أساسيات كانت تلوح أمام التحقيق:

الفرضية الأولى: سوريا وأجهزتها السورية اللبنانية المشتركة, وقد عزز هذه الفرضية التقارير التي بحوزة الفريق الدولي, والجو السياسي العدائي والمشحون في لبنان, والذي ساهم في إشعاله ما يسمى المعارضة اللبنانية والتي تشكلت بمعظمها من أناس لطالما خطبوا ود وولاء سوريا وحين تغيرت المعطيات لم يجدوا صعوبة كبيرة في نقل البندقية إلى الكتف الآخر.

الفرضية الثانية: السلفيون المتشددون, الذين لطالما اعتبروا الحريري أحد أبرز المقربين للنظام السعودي الذي يكنون له أشد العداء, كما أن وجود شريط أبو عدس الفلسطيني الذي ورغم كونه غير مقنع للكثيرين إلا أنه دليل لا يمكن إغفاله في الوقت نفسه.

الفرضية الثالثة: جهة خارجية لها المصلحة في تفجير المنطقة ككل والهروب من أزماتها عبر تصديرها للآخرين وهنا تبرز إسرائيل وأمريكا وكلاهما يعاني الكثير في العراق وفلسطين.

اختار ديتليف ميليس مع فريقه تبني الفرضية الأولى, أي سوريا والتركيز عليها مستندا للتقارير ذات المدلولات السياسية إياها وللجو العدائي والموجه ضد سوريا منذ اللحظة الأولى للاغتيال.

فقام بتركيز أسئلته على الفرضية السورية فقط وهو ما أكده العديد من الشهود الذين تم استجوابهم من قبل اللجنة

وفي موازاة بدايات التحقيق الدولي كانت عملية تضليل وتشويه كبيرة للتحقيق في طريقها للظهور وبطلها مروان حمادة الذي يملك له أرشيف التلفزيون السوري العديد من التسجيلات لقصائد كان يلقيها في مديح سوريا وقيادتها أثناء احتفالات تشرين من كل عام.

تذكر مروان حمادة دعد الغصيني التي جاءته باكية في يوم من الأيام وهي ترجوه لكي يتوسط للإفراج عن زوجها السوري المتورط في قضية احتيال في لبنان والذي كان مجندا في الجيش السوري سابقا, فما كان منه إلا أن اتصل بوليد جنبلاط الذي توسط بدوره للإفراج عنه.

شعر مروان حمادة أن الوقت قد حان لرد الدين فبعث في طلب دعد الغصيني التي أخبرته أن زوجها الذي أفرج عنه في السابق يعمل حاليا في السعودية, فأخبرها أن تدعوه للقدوم إلى لبنان لعمل يهمه.

وصل زهير الصديق إلى لبنان ولم يكن من الصعب على مروان حمادة إقناع صاحب الملفات السابقة, بالنصب والاحتيال, على الإقدام على خيانة بلده.

جلسا سوية ورسم له مروان حمادة دوره وأعدوا معا الروايات الكاذبة اخترعوا حكاية شقتي خلدة ومعوض في بيروت والتي من المفترض أن اجتماعات التخطيط للجريمة كانت تتم في داخلها.

رتبت كل التفاصيل وتم تقديم الخائن زهير الصديق من قبل مروان حمادة إلى لجنة التحقيق وتم اعتباره بمثابة الشاهد الملك في القضية.

كان الصديق بالنسبة لميليس الشاهد الملك بالفعل واعتقد بعد سماع روايته أن سياسة الأبواب المغلقة المحببة إليه قد أتت أكلها و شعر أن خطوات قصيرة فقط كانت تفصله عن الباب الأخير.

أعطيت الأوامر بعدها للأجهزة اللبنانية بضرورة مداهمة الشقق المذكورة ورفع البصمات عنها وبالتوازي مع ذلك تم اعتقال قادة الأمن الأربعة بصفتهم مشتبه بهم في الاغتيال بعد أن كان ميليس نفسه قد طمأنهم بالسابق, حتى أنه أعطى بعضهم إذونات سفر كما هي الحال مع العميد مصطفى حمدان واللواء جميل السيد.

وتم استدعاء النائب ناصر قنديل حينها أيضا, وأفرج عنه في اليوم نفسه فيما عد إشارة واضحة لسوريا حينذاك هدفها العمل على إرباك دمشق.

كانت نشوة النصر قد بدأت تأخذ بميليس فعقد مؤتمرا صحفيا بعد اعتقال قادة الأجهزة الأمنية مباشرة وأعلن من خلاله أن تصورا شبه كامل بات لديه عن الجريمة وأن المسألة مسألة وقت قبل الوصول للتصور الكامل وأكد أنه ما من مشتبه سوري لديه وهو هدف من ذلك إلى طمأنة سوريا وفتح أبواب دمشق أمامه عله يسطر فيها نهاية التحقيق.

غادر ميليس بيروت بعد المؤتمر حيث التقى كوفي عنان وأبلغه أن شهرا واحدا بات يفصله عن الحقيقة, وأنه بحلول الخامس والعشرين من تشرين الأول سيكون التقرير جاهزا بين يديه.

أعلنت دمشق استعدادها لاستقبال ميليس, لكنه طلب تأخير زيارته أسبوعا معتقدا أنه بذلك سيزيد من حالة الإرباك والترقب في دمشق, وسيثير في الوقت نفسه أعصاب القادة الأربعة المعتقلين في بيروت.

وصل ميليس إلى دمشق وأقام فيها يوما واحدا بينما أقام أعضاء فريقه ثلاث أيام وفي المحصلة النهائية لم يحصل على ما كان يريده من معلومات اعتقد أنها موجودة في دمشق ولم يحصل أيضا على إفادات متناقضة خاصة من العميد رستم غزالة يستطيع من خلالها النفاذ إلى القادة الموجودين في بيروت وبالتالي إحراجهم وانتزاع الإفادات المطلوبة منهم.

ولكن المثير بالنسبة لميليس أيضا كان ذلك الملف الذي سلمه إياه مستشار وزارة الخارجية السيد رياض الداوودي والذي يحوي معلومات كاملة عن زهير الصديق, تظهر بأنه مطلوب لسوريا بأكثر من تهمة احتيال ونصب, وأنه لم يسبق له العمل في المخابرات السورية إطلاقا كما ادعى وأنه خدم ضمن الجيش السوري فقط وبرتبة مجند.

وتقاطعت هذه المعلومات فيما بعد مع معلومات كثيرة بدأت تنتشر عن زهير الصديق, وتنسيقه مع مروان حمادة, وعن تنبي التحقيق لأقواله وبناء مسار التحقيق عليها يعتبر خطأ كبيرا ويعيد نقطة التحقيق للصفر خاصة بعد أن جاءت نتائج البصمات التي رفعت عن شقتي خلدة ومعوض لتنفي وجود أي من القادة الأمنيين فيها, أدركت لجنة التحقيق حينها المأزق الكبير الذي وقعت فيه, وأنه رغم معرفة طريقة التفجير وعلمية المسح في مسرح الجريمة والمعلومات الكثيرة المتوفرة إلا أن الحقيقة لم تعد قريبة كما كانت في السابق.

طلب ميليس مقابلة وزير العدل شارل رزق بحضور القاضي إلياس عيد, ليفاجئه في هذا اللقاء أن التقرير الذي سيصدره في الحادي والعشرين من الشهر الجاري هو تقرير ظني ولا أدلة حاسمة لديه وأن قرينة البراءة لا تزال موجودة بالنسبة للموقوفين الأربعة.

طلب رزق من ميليس بعد سماع هذا الكلام الخطير أن يذهب ويقابل رئيس الوزراء فؤاد السنيورة وينقل له ما قاله إليه, وبالفعل توجه ميليس إلى هناك.

لم يخف السنيورة صدمته مما سمع وقال لميليس إنك تقول الآن ما يوحي بأنك بعيد عن الحقيقة بعد أن جهز الشعب اللبناني نفسه لسماع زلزال من خلال تقريرك.

بعد نهاية الاجتماع بادر السنيورة مباشرة للاتصال بسعد الحرير في باريس, ليطلعه على ما سمع من ميليس فطلب منه سعد التريث وعدم إعلان أي شيء, وبالفعل خرج السنيورة وأعلن أن التقرير سيقدم في وقته ولا شيء جديد.

ثم جاءت ليلة الخميس الفائت والتي التأم فيها شمل مجلس الوزراء بقصر بعبدا, وبدأ فيها الوزير رزق بعرض ما جرى خلال اجتماعه بميليس ومن أن ميليس لم يتوصل لأدلة حاسمة بعد, وأنه يتجه نحو تمديد مهمته فما كان من مروان حمادة إلا أن قاطعه واتهمه بالتضليل مؤكدا أن ميليس سيقدم تقريره في وقته, وأن الأدلة موجودة لديه وساد بعدها هرج ومرج في قاعة المجلس تم خلالها تبادل الكلمات النابية إلى أن تدخل السنيورة وعمل على تهدئة الأجواء وهو الذي يعلم في قرارة نفسه أن كل كلام رزق كان صحيحا.

أما شارل رزق فصمت وهو الذي كان يعلم تماما أن الأيام القادمة ستثبت صدقه وكذب حمادة.

انتشر الخبر كالنار في الهشيم في الأوساط اللبنانية خاصة في أجواء الجوقة المعادية لسوريا والتي بنت كل رصيدها الكاذب في الأشهر الماضية على معاداة سوريا.

ميليس لم ينتظر بدوره فقام بتسريب أخبار لجريدة ألمانية يوحي من خلالها أنه لم يتوصل بعد لأدلة مادية وأنه لن يقوم بتوجيه اتهامات لسوريا على الأغلب وأن التقرير لن يحمل في طياته الزلزال المنتظر.

فؤاد السنيورة لم يستطع أيضا أن يخفي أكثر من ذلك فأعلن عن إمكانية استمرار مهمة ميليس حتى نهايتها المقررة في الخامس عشر من كانون الأول وأوضح أن التقرير من الممكن أن يقدم في وقته دون أن يعني ذلك عدم استمرار مهمة لجنة التحقيق الدولية.

إذن ميليس وضع الجميع فجأة أمام احتمالين لا ثالث لهما.

الاحتمال الأول: أن يقدم تقريره في الحادي والعشرين من الشهر الحالي ولا يضمنه الأدلة المرجوة على أن يشير في نهايته على ضرورة إكمال التحقيق حتى الخامس عشر من كانون الأول.

الاحتمال الثاني: إلا يقدم التقرير المنتظر منه أصلا, وبذلك يحبس الأنفاس من جديد حتى الخامس عشر من كانون الأول, وكلا الاحتمالين سيتضحان بعد التشاور مع كوفي عنان في جنيف.

إذن ميليس الذي أجاد لعبة الأبواب المغلقة فوجىء بحائط سميك خلف الباب الأخير مما يعني عودته إلى نقطة البداية من جديد عله لا يضل طريق الباب الصحيح هذه المرة.

مصادر
سيريا نيوز (سوريا)