منذ زيارة شارون الى الحرم القدسي عشية رأس السنة العبرية في عام 2000 اصبحت السنوات العبرية عبارة عن وحدات زمنية ملائمة لتشخيص الفصل الحالي من الصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني. عاما 2000 ـ 2001 كانا عامي الصدمة، وعاما 2001 ـ 2002 كانا عامي الصمود والوقوف على القدمين. أما عاما 2003 ـ 2004 فقد كانا عامي الحسم العسكري الاسرائيلي حتى ندخل في عامي 2004 ـ 2005 الحالي الذي هو عام فك الارتباط.

فك الارتباط كان قد اعلن منذ منتصف السنة الماضية وأصبح قراراً حكومياً في حزيران 2004، ولكن خلال السنة العبرية الماضية فقط تحول البرنامج الى خطة تنفيذية ميدانية وذات بعد سياسي وقانوني كحقيقة قائمة على الأرض وواقع تاريخي جديد.

خلال السنوات الأربع التي سبقت عامي 2004 ـ 2005 اتضحت دلالات الحرب الكبرى التي اندلعت في عام 2000. هذه الحرب كانت هجمة على اسرائيل كدولة يهودية، وعلى اسرائيل كمجتمع حر. على المستوى الايديولوجي نبع ذلك من عدم قدرة القيادة الفلسطينية على انهاءالصراع والاعتراف بحق اسرائيل في الوجود في حدود 1967 المعدلة. أما على المستوى العملي فقد كانت محاولة لزعزعة استقرار اسرائيل كمجتمع ديموقراطي وخوض صراع ضدها من خلال تشويش نمط الحياة الغربي القائم فيها.
ادرك الاسرائيليون خلال تلك السنوات الأربع الرسالة الفلسطينية وفهموها جيداً. هم ادركوا ان الصراع لا يدور حول غزة والضفة وانما حول وجود دولة اسرائيل ذاتها في المحيط العربي والاسلامي. هم فهموا ان الصراع لا يدور حول القدس وانما حول وجود اسرائيل ذاتها كمجتمع حر غير عربي في الشرق الأوسط. هم ادركوا ان الصراع يدور حول حق اسرائيل في الوجود كدولة يهودية ـ ديموقراطية.

على أساس هذا الفهم أخذت تتبلور في اسرائيل منذ رأس السنة في عام 2000 اغلبية جديدة صامتة. هذه الاغلبية تدرك ان الصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني لن ينتهي في المستقبل المنظور، ولكنها تفهم ايضا ان الاحتلال يشكل خطراً أخلاقياً وديموغرافياً وسياسياً على اسرائيل. الأغلبية الاسرائيلية تعرف ان علينا انهاء الاحتلال حتى نضمن وجود اسرائيل من جهة، وان انهاءه في ظل استمرارية الصراع مسألة اشكالية قد تتمخض عنها آفات خطيرة بالنسبة للدولة. لذلك تتوقع هذه الأغلبية من قيادتها القوية بأن تعمل على انهاء الاحتلال تدريجياً مع توخي الحيطة ومن دون تحميل إسرائيل أخطاراً جديدة.

عام 2004 ـ 2005 كان عام الأغلبية الاسرائيلية الجديدة. هذه الأغلبية ما زالت من دون حزب وغير ممثلة في الكنيست. ولكنها اغلبية حازمة وذات تصميم واصرار. وهي تدرك ان اسرائيل تحتاج للحدود تحديداً في ظل غياب السلام وان استمرارالصراع المحتمل ذاته يستوجب التقسيم. هذه الاغلبية تدرك ان ترسيم حدود بين اسرائيل والجانب الفلسطيني هو الذي يؤدي الى تخليصها من صفتها العنصرية ويحرر الفلسطينيين من صفة الضحية التي تلازمهم. هي تدرك ان وضع فاصل بين الشعبين هو وحده القادر على انهاء العلاقات المرضية بينهما ويؤدي الى الاعتراف المتبادل الحقيقي.

في السنة العبرية السابقة دفع ضغط هذه الاغلبية الاسرائيلية الصامتة شارون لتبني الجدار الفاصل وفك الارتباط. ولكن خلال هذه السنة تحولت الاغلبية الاسرائيلية الجديدة الى حقيقة سياسية راسخة هي التي اتاحت لشارون الحفاظ على بقائه وتحويل خطته الى حقيقة سياسية وعمل واقعي. وهي التي مكنت شارون من النجاح في مركز الليكود. أي ان شارون وهذه الاغلبية تحولا إلى حلفاء خلال السنة الماضية. شخصية شارون الفريدة واصرار الاغلبية الاسرائيلية العامة هما اللذان بلورا صورة السنة العبرية الماضية وهما اللذان اصبحا وكلاء ورسل التغيير الأهم في الساحة الشرق اوسطية.

ولكن كان هناك عامل تغيير آخر في السنة الماضية: ياسر عرفات. يوم دفن الرئيس الفلسطيني في الثاني عشر من تشرين الثاني 2004 تحول إلى يوم لإنهاء حرب السنوات الاربع وانجاز خطة فك الارتباط لاحقا. ذلك ان عرفات استطاع قيادة الثورة الفلسطينية بنجاح مذهل طوال 30 عاما الا انه فشل تماما خلال السنوات العشر الاخيرة في تأسيس الدولة الفلسطينية.
وهكذا بعد ان فشل عرفات في محاولته لتدمير اسرائيل من خلال الارهاب، شكل دفنه في رام الله علامة فارقة لبداية العملية الفلسطينية الجديدة التي تضع الأغلبية الفلسطينية البرغماتية على محك كبير. فهل ستكون هذه الأغلبية مثل الأغلبية الاسرائيلية العامة قادرة على فرض ارادتها على الاقلية المتعصبة. وهل هي مثل نظيرتها الاسرائيلية قادرة على ايجاد زعيم يعبر عن رغبتها في التقسيم لدولتين.

النتيجة بعيدة المدى للعملية الفلسطينية الجديدة ما زالت غير واضحة. تعاظم قوة حماس مقلقة وواقعية ابو مازن العملية مشجعة. التحريض في ذروته ولكن سياسة مكافحة الارهاب تفعل الكوابح، التركيبة البرغماتية الهشة قد تنهار في كل لحظة الا انها تعد بالهدوء حاليا، هدوء سطحي ومؤقت، هذا الهدوءالذي لم تكن خطة فك الارتباط لتنفذ من دونه.
العام الماضي كان عام تقسيم البلاد وأغلبية العملية ما زالت امامنا بعد. السنة الماضية حددت المبدأ والبداية والسابقة حيث لم تكن سنة انتهاء حرب السنوات الأربع وانما سنة انتهاء احتلال الأربعين عاما ووصوله الى خط النهاية. لم يكن فقط عاماً برهنت فيه اسرائيل عن عقلانيتها وقوتها بل سنة بدأت تعود فيها إلى نفسها.

التفكير المعمق في الأمر يشير إلى ان هذه السنة كانت سنة التواصل مع الواقع وفك الارتباط الاسرائيلي عن الوهم الخلاصي وفك ارتباط الفلسطينيين عن الوهم العرفاتي. ليس هناك حوار بين الطرفين بعد، الا ان حوارهما مع الواقع القائم على الارض يتمخض عن نوع من افق الامل المنطلق مع العام الجديد.

الوضع الفكري الجديد عند الفلسطينيين ما زال هشاً وقابلاً للتغيير. الواقعية الفلسطينية ما زالت رقيقة وقابلة للتقلبات. أما عند الاسرائيليين الامر يتعلق بتطور اكثر عمقاً. العام الماضي جسد العبر التي تعلمها الاسرائيليون من فشل الاحتلال وفشل اوسلو على حد سواء. وجسد صحوة الاسرائيليين من وعد اسرائيل الكبرى ومن وعد السلام الشامل. الاسرائيليون اخذوا مصيرهم بأيديهم وهم يبذلون محاولة اللحظة الأخيرة لانقاذ انفسهم من اخطائهم.

بعد خروج ياسر عرفات من اللعبة بقي شارون لاعباً اقليمياً وحيداً تقريباً. وهو الشخص الذي يحدد مصير المشروع الصهيوني آلان ويحدد جدول اعمال الشرق الأوسط. خمس سنوات مرت بالضبط على زيارة رئيس المعارضة ارييل شارون للحرم القدسي. هذا الرئيس استمد قوته في السنوات الثلاث التي تلت زيارته تلك من قدرته وحكمته في مكافحة الارهاب بصبر وجلد. وفي العامين التاليين استمد قوته من وضعه افق فك الارتباط امام الامة. تقسيم البلاد ضمن افق يضمن وجود دولة اسرائيل على مدى الايام في ظل استمرار الصراع وفي قلب منطقة تغص بالأزمات والأمواج.

مصادر
هآرتس (الدولة العبرية)