مأدبة رمضان انتقلت باتجاه السفارة الفرنسية؛ خارقة قواعد العلاقة التي أحاطت العمل الفرنسي ربما من الانتداب حتى اللحظة التي ارتفع فيها صوت المؤذن فأفطر الصائمون. فالمسألة الفرنسية في سورية تشكلت مع النخب الثقافية التي درست في الجامعات الفرنسية منذ بداية القرن الماضي. والعلاقة مع "الأم الحنون" كانت في سورية مساحة معرفة أكثر منها عاطفة تجاه طوائف أو ملل أو تيارات تنتمي لما قبل الحداثة. فعندما نتذكر فرنسا يتبادر إلى الأذهان فورا عاصمة النور لأنها قدمت لرواد سورية مسارا في تأسيس الأحزاب والمدارس الفكرية وحتى الجامعات ... لكن الصورة التي أراد إطلاقها السفير الفرنسي بالأمس كانت محاطة بكادر جديد، على الأقل بالنسبة لمن تعامل مع فرنسا بصورتها "المعرفية" وليس بمواقفها السياسية.

مأدبة رمضان التي أطلق فيها السفير الفرنسي مواقف ضد القلق الاجتماعي في سورية ربما ليست كافية لخلق طمأنينة اجتماعية عامة، لكنها كانت كافية لإثارة الأسئلة حول أمرين:

- الأول توقيت هذا الموقف قبل إعلان تقرير ميلس بأسبوع تقريبا.

- الثاني الصورة التي تم اختيارها لإطلاق الموقف وسط حشد من رجال الدين والأعمال.

بالطبع يحق لأي جهة سياسية اختيار الزمان والمكان وحتى الظرف الثقافي لإطلاق مواقفها. ويحق لها أيضا الاستفادة القصوى من الرموز الاجتماعية مهما كانت طبيعتها، وبالمقابل يحق لنا السؤال عن المحور الجديد الذي تتخذه طبيعة التوجه الثقافي الفرنسي .. وهل يمكن فهم مأدبة الإفطار من زاوية بعيدة عن الموقف السياسي؟

هذا السؤال ربما يتجه مباشرة نحو العلاقة مع فرنسا خارج الإطار السياسي، وربما العالم أيضا بعد أن عشنا أزمة تواصل خلقتها الظروف المتلاحقة منذ انهيار برجي التجارة في نيويورك. وظهر واضحا أن الأسئلة الكبرى في هذا التواصل انزاحت من النخب الثقافية نحو نخب جديدة إن صح التعبير.

ما نفهمه من المأدبة الرمضانية يتجاوز البعد السياسي لما قاله السفير الفرنسي، رغم أن تصريحاته على درجة من الأهمية، فعلى صعيد البنية الداخلية يمكننا فهم المرجعيات المعرفية من جديد، حيث يبدو أن الأزمات الحقيقية في العلاقات بين الثقافات موجهة إلى فئة غير التي كانت تجذب الأبصار والبريق ... وتستحوذ على اهتمام السياسيين والمفكرين في العالم.

"النخب الثقافية" وفق بعض المؤشرات لم تعد مثار اهتمام دولي لأنها تخلت بشكل تلقائي عن العملية المعرفية، تاركة الساحة لتيارات جديدة ربما تقوم اليوم بالإجابة عن أسئلة كان على المثقفين والمفكرين "الحداثيين" معالجتها بشكل مباشر.

ربما علينا أن نشكر السفير الفرنسي، ليس فقط على موقفه السياسي، بل أيضا على الطبيعة التي اختارها والزمان أيضا الذي أظهر أن المعرفة الحداثية معطلة اليوم داخل الثقافة الاجتماعية.