لا تزال بريطانيا والولايات المتحدة تحققان في العمليات "الارهابية" التي استهدفت جنود الاولى في جنوب العراق في الفترة الاخيرة، وذلك بغية معرفة امور عدة. اولها، هوية الجهة الاقليمية التي تقف وراء التصعيد - وان كان لا يزال في بدايته - الذي تشهده المناطق العراقية في الجنوب حيث ساد الهدوء النسبي مدة طويلة ربما بسبب تلاقي المصالح او بالاحرى تقاطعها مع ابناء هذه المناطق وغالبيتهم من الشيعة. وثانيها، هوية الجهة الاقليمية التي تقف وراء التطور في الامكانات العسكرية لـ"الارهابيين"، الامر الذي مكنهم ليس فقط من التسبب بقتل اعداد كبيرة من العراقيين وجنود "التحالف" بل ايضا من تدمير اليات عسكرية مهمة. وهو امر كان صعبا في السابق او نادرا نظرا الى بدائية الاسلحة او بالاحرى ادوات التفجير المستعملة. وثالثها، هوية الجهة المحلية (عراقية او غير عراقية او مختلطة) التي نفذت العمليات الارهابية في الجنوب العراقي. اما الهدف من المعرفة "المثلثة" المفصلة اعلاه فهو اتخاذ الاجراءات المناسبة السياسية والعسكرية والامنية في الداخل العراقي لوقف هذا النوع من العمليات او على الاقل للحد منه. وهو ايضا اجراء الاتصالات الدولية والاقليمية اللازمة لاقناع من يقفون وراء هذا التطور النوعي في المقاومة وخصوصا في المناطق الجنوبية الشيعية بالاقلاع عن ذلك لان مصالحهم قد تتأذى جراءه.

طبعا، لم تتوصل التحقيقات المشار اليها الى نتائج نهائية وحاسمة حتى الآن. علما انها قد لا تتوصل الى مثل هذه النتائج. وقد اكد ذلك قبل يومين وزير الدفاع البريطاني جون ريد لدى اكتفائه بالقول ان "بصمات" الجمهورية الاسلامية الايرانية موجودة على العمليات المشار اليها. وهذا قول اتهامي لكنه لا يرقى الى مرتبة امتلاك ادلة ثابتة وصلبة. الا ان ما اكده الوزير نفسه في شكل او آخر كان ان عناصر "حزب الله" اللبناني الموجودة في العراق متورطة في هذه العمليات. وفي انتظار اكتمال التحقيقات فان السلطات البريطانية والاميركية تشعر بالقلق لان شيئا ما يجري في جنوب العراق، على قول متابعين اميركيين للموضوع العراقي في واشنطن. ومبعث القلق ان عناصر الحزب المذكور نشطت فجأة بعد مدة من السكون او الهدوء اذا جاز التعبير ، على هذا النحو، فضلا عن عدم تمكن لندن وواشنطن حتى الان من تحديد اي من الجهتين الاقليميتين سوريا وايران اعطت اوامر بالنشاط المتجدد لهذا الحزب الحليف لكل منهما او لهما معا. وفي انتظار اكتمال التحقيقات نفسها تشعر المملكة العربية السعودية كبرى دول الخليج العربية وجهات اقليمية اخرى بالقلق، بل بالخوف الذي يكاد ان يقترب من الذعر ، بفعل "الحركشة" في الجنوب العراقي وهوية القائمين بها. ومبعث هذا القلق ايضا هو خشية السعوديين وغيرهم من الخليجيين والعرب من سيطرة التيارات المتطرفة داخل الطائفة الشيعية ذات الغالبية الساحقة في الجنوب العراقي، اذ من شأن ذلك تطويق جناح رئيسي من شبه الجزيرة العربية وامتلاك كميات هائلة من النفط ومن احتياطه ومن موارد اخرى مهمة، وتقوية التيارات المذكورة في العراق كله وفي الجمهورية الاسلامية الايرانية وعدد من دول الخليج وكذلك في لبنان.

كيف ستعالج اميركا وبريطانيا الموضوع المفصل اعلاه في حال استمراره؟

بداية، يجيب المتابعون الاميركيون انفسهم، بان المعالجة لن تكون واحدة لايران الاسلامية او لسوريا باعتبار انهما الجهتان الاكثر اشتباها في مسؤوليتهما منفردتين او مجتمعتين عن العمليات "الارهابية" المتطورة في الجنوب. فمع ايران لن تلجأ اميركا واستطرادا بريطانيا الى الوسائل العسكرية لاعتبارات متنوعة، منها ان هذه الوسائل تقيم شيعة العراق على عسكر الدولتين وتلغي "التعايش" شبه المنظم القائم بين الفريقين ، ولا تترك مجالا لقوات التحالف او الاحتلال سوى الانسحاب على اخطاره الجسيمة، ومنها ايضا ان ايران قامت بدور "بناء" الى حد ما في العراق ولا تزال ربما لاعتبارات تتعلق بمصالحها ، لان عراقا مستقرا افضل لها من عراق غارق في حروب اهلية او في فوضى عارمة. ومنها ثالثا، ان ايران قد لا تكون لقمة سائغة وان ردود فعلها على التعامل معها عسكريا قد تفتح جبهات لا مصلحة لاحد في فتحها الآن على الاقل. ومنها رابعا، ضرورة استمرار الاتصالات الدولية بايران لحل المشكلة النووية الناشبة.

اما مع سوريا فان العمل العسكري قد يستعمل ، ولكن على نطاق محدود، يلفت المتابعون انفسهم، وذلك تنفيذا لقانون اميركي يتحدث عن حق "الملاحقة الحارة" اي عن حق التعامل عسكريا، بريا او جويا، ولكن بتقطع مع الجانب السوري من الحدود حيث يقول الاميركيون والبريطانيون يتم تجميع "الارهابيين" وارسالهم الى العراق. والهدف من ذلك قد يكون زيادة الضغط الممارس على سوريا الآن بحيث تجد نفسها مضطرة اما الى مواجهة زعزعة جدية لاستقرارها واما الى التجاوب فالتفاهم، ولكن بشروط اقسى من التي قبلتها حتى الآن. طبعا، لا يمكن الكلام على عمل عسكري محدود او ضغط سياسي اميركيين على سوريا من دون الاشارة الى اسرائيل، الحليفة الاستراتيجية لواشنطن، لكونها مصلحة حيوية اميركية ولأن ما يجري في سوريا وفي المنطقة عموما يمسها مباشرة او مداورة. وفي هذا الاطار يقول المتابعون اياهم ان اسرائيل ستتخلى عن تحفظاتها الكثيرة عن تغيير اكثر من "ستاتيكو" او وضع قائم في المنطقة اذا نشط فلسطينيون من لبنان لتهديد الوضع "الهادىء" على حدودها مع لبنان.

مصادر
النهار (لبنان)