ايام قليلة تفصلنا عن التقرير الموعود. لبنان الذي يعيش منذ شباط - فبراير الماضي في خضم رواية بوليسية كما يعني العيش في رواية بوليسية بالحرف ومن دون زيادة او نقصان، حط رحاله. لم يعد ثمة الكثير لينتظره. على الأرجح سيعمد اللبنانيون بعد صدور التقرير إلى العيش في قلق انتظار نتائج التقرير المقبل. فالنظام السوري مثلما يبدو من تصريحات مسؤوليه ما زال قادراً على الصمود في مواجهة الضغوط. ومثل هذا الصمود يعني في الدرجة الأولى ان اللبنانيين سيعيشون فصول انتظار مرير كتلك التي عاشوها منذ شباط - فبراير حتى اليوم.

في هذا الانتظار ثمة الغام كثيرة ستنفجر او سينجح اللبنانيون في تفكيكها بأقل خسائر ممكنة.

ما ان يصدر التقرير حتى يضطر اللبنانيون إلى معالجة شؤون بالغة الدقة في اوضاعهم. ليس القتلة الذين قتلوا الرئيس رفيق الحريري إذا صدقنا التسريبات التي تصدر من هنا وهناك، وإذا تتبعنا بوصلة الاتهام السياسي، مجرد نكرات قرروا في جنح الظلام ان يتخلصوا من شخص يزعجهم. انهم في معنى من المعاني اعمدة النظام السابق الذي رزح اللبنانيون تحت نيره طوال اكثر من عشرين عاماً كاملة.

هذا يعني من وجه اول وبديهي، ان التقرير لن يصل إلى خواتيمه السعيدة والمبشرة باستقرار البلد وضمان امنه، من دون تغيير عام وشامل في فحوى النظام الحالي ومبناه. والحق ان السياسة اللبنانية طوال العقدين الماضيين كان لها عنوان اوحد ووحيد، تم وضعه وتأليفه في عنجر حيث كان اللواء المنتحر غازي كنعان مستقراً طوال ما ينوف على العقدين. ليس خافياً ان كل مواليد السياسة اللبنانية في العقدين الأخيرين كان يمت بصلة وثيقة إلى اللواء الراحل، او انه كان يناصبه العداء الصريح، مثلما هي حال بعض الساسة المسيحيين من المعارضة السابقة للهيمنة السورية على لبنان. لكن مجمل النظام، في حركاته وسكناته وفي مبناه ومعناه، كان صناعة سورية في عنجر بامتياز.

والحق ان استقبال اللبنانيين لخبر انتحار اللواء غازي كنعان، والذي بدا غير آسف ولا مبال في احسن الأحوال، دل دلالة بليغة على الدور البالغ الخطورة الذي لعبه اللواء الراحل في لبنان. في افضل الأحوال قد يصدق اللبنانيون ان لا علاقة لغازي كنعان بمقتل الحريري، لكنهم ليسوا في حاجة لمن يدلهم على الدور الذي لعبه في اغتيال البلد ونزع اعصاب ممانعته وئيداً وحثيثاً، إلى حد انه غادر لبنان مطمئناً إلى كون كل السياسيين اللاعبين والمتنفذين في لبنان، من مواليد خطته المحكمة.
غادر اللواء كنعان لبنان، وسلّم خلفه رستم غزالة بلداً يكاد يكون ساسته وقادة الرأي فيه، برمتهم من الاتباع. كان اللواء قد اغتال البلد برمته، قبل ان يسلمه لخلفه جثة هامدة. الأرجح ان الخلف لم تواته الحكمة ولم يصب منها جانباً حين شاهد بأم العين، وعاين من دون ان يخبره احد، الجثة التي تركها له سلفه تتحرك وتدب الحياة فيها حثيثاً. وربما سيأتي التقرير الموعود على ذكر هذا الاستهوال الذي حدا بالخلف ان يخرج عن طوره، في ما نسب إليه من تهديد مباشر للرئيس الحريري قبيل اغتياله.

والحال فإن التحقيق الدولي الذي يقوده الالماني ديتليف ميليس، لن يمر على اللبنانيين هنيئاً مريئاً. ثمة جيل من السياسيين والامنيين سيطاولهم التحقيق بشظاياه. جيل تحكم في مقدرات البلد ولعب بمصيره، طوال المدة التي حكم فيها اللواء كنعان لبنان حاكماً فرداً ومن دون منازع. مثل هذا التحقيق، وهو يلاحق الأدلة السياسية التي سبقت الجريمة سيجعل من السياسة اللبنانية في العهد السوري مكشوفة امام الرأي العام. هذا الامر يفترض ان استيلاد طبقة سياسية يمكنها ان تحكم البلد ولو بصعوبة فائقة، في هذه المدة الزمنية القصيرة، غير ذي منطق في اي حال من الأحوال. والحق ان تقرير ميليس وهو يبحث في جريمة سياسية كبيرة إلى هذا الحد، وكانت اصلاً بمثابة زلزال اصاب البنية اللبنانية برمتها، سيضع لبنان امام استحقاقات داهمة وبالغة الخطورة، تتعلق اولاً بقدرة اهل الحكم المقبل، على ادارة شؤون الحكم.

لا يكف المحللون عن حديث الحاجة اللبنانية الملحة للاستعانة بقوى خارجية لتمرير هذه المرحلة لبنانياً بأقل قدر من الخسائر. ذلك ان من مضاعفات التحقيق الدولي وتداعياته التي ظهرت حتى الآن، نشوء ازمة حكم مستفحلة في لبنان: اكثرية عاجزة عن الحكم، واقلية عاجزة عن التحول لمعارضة. وفي دوار الأدوار هذا الذي يشهد لبنان فصوله العجيبة، ليس ثمة ما يشير إلى حل داخلي ممكن. كأنما تقرير ميليس يضع البلد في عناية المجتمع الدولي. ويحسن بالمجتمع الدولي ان تكون نواياه واهدافه حيال البلد في صالح البلد واهله. فمن دون هذا الأمل يفقد اللبنانيون كل امل، على الأرجح، في حل قريب المتناول لمعاناتهم التي ما زالت مستمرة منذ اكثر من ثلاثة عقود.

من يراقب احوال السياسة في لبنان، لا بد ان يلاحظ ان ما تركته الإدارة المخابراتية السورية في لبنان يتجاوز عناصر المخابرات السورية المتخفية والتي ما زالت موجودة في لبنان مثلما يعلن البعض. يتجاوز ذلك إلى ما هو اهم واخطر على مستقبل البلد. حيث يصعب ان يجد المراقب بين القوى السياسية النافذة والمؤثرة ما يمكن ان يكون قاسماً مشتركاً يمكن الركون إليه في تأسيس مستقبل منشود. اللبنانيون مختلفون حيال العلاقة مع اسرائيل، وما السياسة الأنسب التي ينبغي على اللبنانيين اتباعها حيالها، واللبنانيون مختلفون في الاقتصاد، وليس ثمة اتفاق على سياسة اقتصادية عامة. في اختصار، اللبنانيون مختلفون على كل شيء. ربما يمكن القول انهم متفقون على تجنب الحرب المسلحة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: من يعصمنا عن حرب اهلية باردة لا تبقي ولا تذر في البلد؟

ليس هذا كله من مخلفات السياسة السورية في لبنان، بطبيعة الحال. فالخلافات اللبنانية لها اصول وبيانات وجذور ممتدة. لكن ما ابدته السيطرة السورية على لبنان، كان على الدوام تأجيل البحث في المعضلات وطيها بما لا يتناسب وحجمها الفعلي. هكذا كان البلد يخوض حرباً ضد اسرائيل في وقت يشهد اكبر نهضة عمرانية في الشرق الأوسط. هذا لم يكن من معجزات اللبنانيين الكثيرة، بل كان مرده إلى تخصيص كل فئة من الفئات اللبنانية بإدارة بعض شؤون البلد وتوكيلها في هذه الشؤون حصراً ومن دون شركاء. وتأجيل البت في الأمور الأساسية التي تشكل نقاط الاختلاف بين اللبنانيين إلى أجل غير مسمى. مما يجعل امر فتحها اليوم يبدو كما لو انه يعرّض البلد لرياح الجهات الأربع تعصف به من كل جانب.

تشير استطلاعات حديثة للرأي في لبنان ان الرئيس فؤاد السنيورة يحوز يوماً بعد يوم ثقة اللبنانيين من مختلف مشاربهم. الرئيس السنيورة نجح حتى الآن في تفكيك الغام صغيرة، ساعدته في ذلك ظروف دولية مواتية، لكنه استغلها احسن استغلال. واغلب الظن انه سيحقق شعبية اكبر واوسع لو نجح في تفكيك الألغام الكبيرة التي ستعقب تقرير ميليس: من سلاح "حزب الله"، إلى العلاقة مع سوريا وصولاً إلى السياسة التي ينبغي ان يجمع عليها اللبنانيون حيال اسرائيل، وانتهاء بالبرنامج الاقتصادي الذي يتخطى حسن ادارة الدين العام. الرئيس السنيورة يحوز هذه الثقة لأنه فكك الغاماً صغيرة، لكنها الغام كانت في ما مضى من زمن الهيمنة السورية على لبنان مستحيلة على التفكيك، وغالباً ما كانت تنفجر سواء عقد العزم على تفكيكها ام تم تجاهلها على نحو من الانحاء. لن يستطيع الرئيس السنيورة النجاح وحده في هذه المهمة، فهو بحاجة إلى شركاء من وزنه وجنسه. وقد يكون هذا متيسراً في المقبل من الأيام. لكن ما يجدر بنا التفكير فيه ملياً، هو إلى اي حد يمكننا ان نعتبر النجاح في نزع الالغام انجازاً. وما الحد الذي سيتطلبه نزع الالغام من الصبر على الشدائد والعض على الجروح من عموم اللبنانيين؟

مصادر
إيلاف (المملكة المتحدة)