خرجت سوريا من لبنان كما دخلته بقرار دولي. لكن التدخل السوري في لبنان لتوجيه سياساته كان سابقاً على القرار الدولي وتحفزه جملة اعتبارات مصلحية تاريخية وحالية، في مقدمتها الاعتبارات الامنية والسياسية والاقتصادية قبل الايديولوجية. خلال السنوات الماضية كان يظنّ في دمشق كما قال مسؤول أمني كبير، إن خروج سوريا من لبنان بمثابة توجيه رصاصة الى رأس النظام. تبين فعلياً ان خروجها من لبنان كان إنقاذاً لرأس النظام، او على الأقل الخطوة الضرورية لمنع مواجهات وتداعيات من نتائجها ضرب النظام في دمشق. لكن النظام خسر جزءاً من شرعيته، والكثير من مصالحه السياسية والاقتصادية. هذا ما يعني ان النظام يفكر في التعويض عن هذه الخسائر. والخطأ الشائع عند اللبنانيين، هو إسقاط تصوراتهم عن مصالح سوريا وسلوكياتها الامر الذي لا يتفق مع التصرّف السوري.
سوريا تتعرّض الآن لضغوط تستهدف إنهاء دورها الاقليمي في لبنان وفلسطين والعراق تمهيداً لتغيير طبيعة نظامها وإدراجه في خانة القبول بالمواصفات الاميركية. من الخطأ التفكير انها فقدت كل عناصر الدفاع، ومن الخطأ التفكير أنها تستطيع التكيّف مع الشروط الأميركية دون ان تخسر نفسها. النموذج الليبي، لا يصحّ في سوريا لألف سبب وسبب وفي المقدّمة قضية الجولان.
أظهرت سوريا في الماضي والحاضر مرونة استثنائية في تقديم التنازلات والسعي للتعاون مع الولايات المتحدة الاميركية سواء في لبنان منذ العام 1975، وسواء في حروب الخليج، وأخيراً مع حرب العراق والقرار الخاص بلبنان 1559. لكن فيما يتعدّى ذلك يصعب على سوريا الاقتراب مما تسميه الشروط الإسرائيلية. لذلك رأينا سوريا تبدي قدراً كبيراً من الاستعداد للتعاون ثم هي تلجأ الى الممانعة إزاء بعض القضايا الرئيسية.
قدّمت سوريا ثلاثة تنازلات مهمة:
التعاون في موضوع مكافحة الارهاب ومساعدة الولايات المتحدة في بعض القضايا الخاصة بالعراق. يحكى هنا عن كم هائل من الملفات التي قدّمتها سوريا للادارة الاميركية خصوصا الملفات الأمنية لمواجهة بعض الجماعات الإرهابية. كذلك طرحت صيغاً واضحة للتعاون فيما خصّ ضبط الحدود، فلم تبادر الولايات المتحدة نفسها الى ترجمتها.
التراجع الكبير في مستوى دعم المنظمات والفصائل الفلسطينية والخدمات اللوجستية لها في دمشق ولا سيما إقفال المكاتب الإعلامية، ثم المصالحة مع السلطة الوطنية الفلسطينية وإسقاط التحفظات عن اتفاق اوسلو والقبول بما تقبله السلطة فضلاً عن المساعدة في الوفاق بين الفصائل والسلطة.
الانسحاب من لبنان تنفيذاً للقرار 1559 فيما يخصّ سوريا، وعدم التصدّي المباشر للانقلاب السياسي الذي حصل في لبنان، وإعلان الرغبة والاستعداد على التعاون فيما خصّ التحقيق المتعلق بجريمة اغتيال الرئيس الحريري، والاندفاع السوري والتوسط طلباً لتجديد المفاوضات مع إسرائيل بدون شروط مسبقة.
واجهت الولايات المتحدة هذه الخطوات السورية بتجاهل كامل لأهميتها، وواجهت الاستعداد السوري الدائم والملحّ للحوار، بالمزيد من الضغوط السياسية وتصعيد المواقف ضد سوريا على جميع الجبهات ومن بينها إدارة الملف اللبناني بتجاهل كامل لمصالح سوريا في لبنان. فالقوى التي تدعمها الولايات المتحدة في لبنان تذهب بعيداً في محاولة اجتثاث النفوذ السوري وإضعاف القوى الحليفة لسوريا. لكن القوى الحليفة لسوريا في لبنان لم تسقط كلها في هذا الانقلاب السياسي وما تزال تملك قوى فعالة قادرة على مواجهة الموجة السياسية التي انعكست في الانتخابات النيابية. وليس خافياً ان <<حزب الله>> يشكل نقطة ارتكاز اساسية على الصعيدين السياسي والمادي، فضلاً عن وجود قوى وشخصيات وتيارات قادرة على إقامة نوع من التوازن القلق داخل الساحة اللبنانية.
وإذا كانت الولايات المتحدة قد اعتبرت أن تحرير لبنان من النفوذ السوري هو خطوة أساسية على طريق تطويع النظام السوري، إن لم يكن إسقاطه، فإن سوريا لن تتوقف عن التعامل مع لبنان كساحة صراع غير محسومة النتائج، وان الامور ستجري فيه سجالاً بحيث لن تستقر وتترسخ الهيمنة الاميركية عليه. وهذه من بداهة الامور في التفكير السياسي لدولة إقليمية كانت لها تلك الامتيازات الاستثنائية في لبنان على مدى ثلاثين سنة. نقول هذا الكلام لا حبا بسوريا ولا كرها لها، بل مجرد تشخيص لواقع سياسي يرتّب نتائج في كيفية التعامل مع سوريا اليوم.
وإذا صحّ التقدير ان سوريا التي واجهت في لبنان نوعا من سياسة العزل والعزلة دوليا وعربيا، قد بدأت تستعيد دورها الاقليمي بتجديد التعاون مع محور السعودية ومصر فضلاً عن علاقاتها الوطيدة بإيران، وأنها لم تفقد صلاتها المهمة بالمنظمات والفصائل الفلسطينية وكذلك مع القوى اللبنانية التي سبق ذكرها، فإن دمشق تسعى الآن إلى إجراء تعديل حقيقي في التوازن السياسي الإقليمي مستندة الى جملة معطيات مهمة:
المعطى الفلسطيني والتعقيد الحاصل على مستوى مسيرة التسوية.
المعطى العراقي والعقبات الهائلة التي تواجهها الولايات المتحدة في حسم الموقف العراقي.
المعطى اللبناني الذي يستعيد توازنه تدريجياً بعد نجاح <<حزب الله>> في ردّ الهجمة السياسية الواسعة سابقاً لسحب سلاحه وفرض عناوين جديدة للبحث في الخيارات اللبنانية، فضلاً عن تراجع حدة الأزمة الناتجة عن جريمة اغتيال الرئيس الحريري، من خلال ضبابية التحقيق وعدم حسمه.
إزاء ذلك كله، من البديهي أن تتحرك دمشق على الساحة اللبنانية باستخدام كل إمكاناتها بما في ذلك الإمكانات الأمنية حتى لو كانت تلك التحركات مدانة أخلاقياً. وسواء أكانت تلك التحركات مساهمة في اعمال التفجير والعنف والاغتيال، او عبر تحريك الأدوات السورية في المخيمات الفلسطينية.
ومن الواضح أن لبنان يفتقد الآن الى المناعة الأمنية، بعد انتقال مرجعية الأمن إليه، كما يفتقر الى العنصر الأساسي لضبط الأمن وهو الوفاق السياسي، فضلا عن انكشافه السياسي والأمني الواسع جراء نشاط جميع الاجهزة الدولية والقوى والتيارات الداخلية. فهل يمكن ان تحل مسألته الأمنية عبر تعزيز التقنيات والإمكانات الفنية كما تقترح المرجعيات السياسية والامنية اللبنانية، ولو من خلال التعاون مع أرقى الدول وأرقى الخبرات؟ لعل السؤال يجيب عن نفسه، لأن الجريمة التي نواجهها في لبنان ليست من نوع الجرائم العادية بل جرائم سياسية. ومن البديهي القول إن المدخل لمعالجة الجريمة السياسية هو السياسة لا الأمن.
واذا كان من الايجابي الآن بدء حركة حوار بين القوى اللبنانية نفسها وبين الدولة اللبنانية والمنظمات والفصائل الفلسطينية، فإن من الضروري تذكير المسؤولين اللبنانيين، بان الامور لا تحلّ من طريق السخرية فيما تعتبره الجهات المسلحة أو المتوسلة للعنف قضيتها. ومن العمى السياسي تجاهل نوع التناقضات التي تدور في المنطقة والتقليل من أهمية الصراع السياسي في المواجهة مع ما تسمّيه الحركات المسلحة <<امبريالية واستعمار وصهيونية>>. ومن المعروف أنه ليس من طريق التجميل اللغوي او اللفظي او تغيير المصطلحات يمكن ان تحل المشكلات السياسية.
طالما أن المنطقة عرضة لهذا التجاذب السياسي الدولي والاقليمي، وطالما لبنان يشهد مرحلة انتقالية لم يتعزز فيها أمنه، بل يواجه بؤرا أمنية حقيقية وقوى تتصل أهدافها بصراعات المنطقة، فيجب التفكير اذن بالشأن السياسي لضبط الأمن.
من هنا الأهمية الاستثنائية للوفاق السياسي الوطني اللبناني كمدخل لتحصين الوضع الأمني الداخلي، وكمدخل لفتح الملفات الاقليمية نفسها بشقيها الفلسطيني والسوري.
هناك توافق لبناني بين القوى الاساسية على عدم تكرار تجارب الماضي مع سوريا، وقد جاء الطائف بنص صريح عن تعاون البلدين في مجالي السياسة والأمن، فلا يكون أي منهما ممراً او مستقراً لأي تهديد أمني من الخارج. وإذا كانت سوريا تشعر بالاستهداف الغربي لها من بوابة لبنان، وليس في الأمر مبالغة الآن مع خطابات الرئيس الاميركي بوش، فمن مصلحة اللبنانيين أن يعطوا سوريا التطمينات والضمانات على هذا الصعيد. ولسنا نعتقد ان سياسة التجاهل التي تديرها الحكومة وتأجيل الحوار، والسير حثيثا في خطى الانفصال عن سوريا سياسياً وأمنياً، والاصغاء فقط للنصائح إن لم نقل المطالب الاميركية، يمكن ان يوصل الى نتائج مرضية. ولا تدري تماما كيف تفكر الأكثرية النيابية الآن ومعها حكومتها بالعلاقات اللبنانية السورية، وما اذا كانت نتائج التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الحريري ستغير الجغرافيا والتاريخ بحيث تقرر وحدها الاتصال او الانفصال عن سوريا. اللهم إلا اذا كان هؤلاء يراهنون على دور دولي ما يحل جميع المشاكل وربما عن طريق إزالة النظام السوري تمهيداً للمصالحة بين البلدين.
ولعلها خطوات فولكلورية تلك التي قامت بها الحكومة عبر تكثيف تواجد الجيش على الحدود اللبنانية السورية او مثيلاتها على حدود المخيمات. لأنها تفترض أصلاً إمكانية المنافسة في المجال الأمني او التوازن. وتفترض انه عن طريق الردع وحده يمكن معالجة مشكلات سياسية تاريخية مزمنة، فضلاً عن اعتبار الخطر دائماً يأتي من خارج. هذ الفرضيات لا تُبنى عليها سياسة أمنية دفاعية. ولن تستطيع ان تعالج هذا المستوى من الارهاب او من العنف او من التعدي على الاستقرار في لبنان. هذه عراضات لم تعد تقنع أحداً. والاخطر من بينها جميعا الاستنجاد بالأمن الدولي او بالمساعدات والمداخلات الدولية التي تسوّغ للعنف حينئذ بعده السياسي؛ لأنها تفترض سلفا العداء لسوريا والذهاب لمواجهتها. ولا ندري ما اذا كان المسؤولون عن قضايانا الوطنية الكبرى يتعظون من تجربة العراق، أو حتى من تجربة الحرب في لبنان.
وعندما تحاول الحكومة اللبنانية التعاون مع هذا الحشد من الخبرات الغربية لتنظيم الأمن ألا يخطر ببالها ان تلك الدول عرضة للاختراق الأمني؟ ألا يخطر ببال الحكومة اللبنانية، ان الحروب غير النظامية لا يمكن مواجهتها بالترتيبات الامنية النظامية؟ ثم ألا يخطر ببال الحكومة أنها بجميع تصريحات أفرادها تحدد سلفاً الجهة السياسية، فهي اذن ليست بحاجة الى <<المعرفة الامنية>> بل الى الردع الأمني، ومن أين لها ان تحصل عليه في غياب الوفاق الشامل بين اللبنانيين؟
نحن لا نطرح هذه الاسئلة بهدف تحميل الحكومة المسؤولية السياسية لإزاحتها، بل بهدف تصويب وجهة المعالجة لخطر يستهدف جميع اللبنانيين، وقد طاول عمقهم المدني العاري من أية حماية أمام مسلسل القتل والتدمير والارهاب. ولولا بعض الحصانة الوطنية والسياسية عند اللبنانيين، وبعض الخبرة والكثير من التضحية، وإدراك طبيعة المشكلات، لكن بدأنا نسمع نغمات الأمن الذاتي، بل كانت الاحزاب خرجت الى الشارع تتدبّر أمن مناطق نفوذها. ولكان ذلك اخطر ما يواجه البلاد من تحديات. وفي كل حال ليس سراً ان القيادات السياسية تتدبّر أمنها وتتحصن بمربعات أمنية في جميع الطوائف والمناطق. وحده المواطن العادي يترك لقدره ومصيره. لذلك نقول عبثاً تسير الحكومة بمعالجة مشكلات البلاد، والامنية بنوع خاص من خارج المعطيات السياسية، ومن خارج المعالجات السياسية. ثمة حاجة الآن ملحة لوفاق وطني يلغي هذه المعسكرات وما تستجر من تشنجات. ثمة حاجة لوقف خطط العزل والإقصاء التي عانت منها البلاد كثيرا، خصوصا جزءاً من قوى السلطة اليوم. ثمة حاجة لفتح الملفات الاساسية في البلاد ومنها ملف العلاقات اللبنانية السورية من خارج الأحقاد وبالتأكيد من خارج سياسات الاستقواء بالخارج قريباً كان أم بعيداً.