ما عاد بالامكان مطالبة الرأي العام العربي ولا الشعوب العربية بالاصطفاف ومن دون تفكير لمساندة الأنظمة المنهارة التي جرت على نفسها وعلى من حولها الكوارث تباعاً. الإبتزاز العاطفي والوطني والشعاراتي أصبح سياسة ممجوجة وتافهة. ما عاد بالإمكان استدعاء العواطف القومية ورفع شعار "أننا مستهدفون" بهدف حشد الرأي العام العربي وتحريض الشعب لتأييد الأنظمة التي تبخترت بغرور القوة والاستعلاء اللذين لم تمارسهما إلا على الشعوب المقهورة. لم يعد هناك متسع في وجدان هذه الشعوب لمزيد من السخف واجترار الشعارات التي أختبأت خلفها أنظمة القهر طوال عقود. فهذه الشعوب الطيبة التي لا تتذكرها الأنظمة إلا عندما تكون قد وصلت إلى حافة الإنهيار الأخير سئمت تكرار التجربة الرتيبة المملة: استبداد مستمر، قهر دائم، فساد خيالي، حكم عائلي، وتمزيق للوطن وللإجماعات الوطنية، وإعتداء على الجار العربي، وهزيمة تلو هزيمة أمام العدو الحقيقي، كل ذلك لا يعادله على مستوى عملي سوى التلطي وراء شعارات الصمود ومقاومة الإستعمار. ثم ما أن تتراكم كل تلك الإخفاقات فتحيق بالنظام المعني من كل جانب حتى يتذكر الشعب الذي داسه لعقود طويلة فيبدأ بالعويل والمناداة عليه مستحثا نصرته ونخوته الوطنية!

كما كانت تجربة صدام حسين المريرة في العراق لمدة سنوات طوال، ها هي الشعوب العربية تواجه الألم والإنشطار الوجداني مرة ثانية إزاء سوريا ونظامها. الألم والإنشطار والحافز على مناصرة سوريا يعوقه سمعة النظام وممارساته وفساده وفشله خلال العقود الماضية حتى في نسج علاقة وطنية صحية بين السوريين أنفسهم ووطنهم بعيدا عن النظام، وبين بقية العرب وسوريا التي يحبون. صارت أي علاقة مع الوطن السوري، كما كانت العلاقة مع الوطن العراقي، مرهونة بالعلاقة بالنظام نفسه: النظام هنا أو هناك، وكما هو في معظم البلدان العربية لسان حاله البئيس يقول أنا الوطن والوطن أنا. وهكذا يصير انتقاد النظام انتقادا للوطن، ويصير الخروج عن النظام إن دعت الحاجة إلى ذلك كأنما هو خروج عن الوطن وخيانة له.

يفتعل النظام معارك دونكوشيتية خارجية لا تخدم سوى الفئات الحاكمة والبطانات المستفيدة منه ماليا وفسادياً، وتمارس النفوذ والبطش لتجميع الثروات وتبييض الأموال وتعيين الأبناء والأحفاد في المواقع المؤثرة لضمان ديمومة استنزاف الوطن، ثم يطالب الشعب بالتضحية والموت من أجل ذلك. ثم لا يتردد في البطش بالجار العربي تحت مزاعم الوشائج القومية والخيارات الاستراتيجية، أو الوحدة القسرية الفوقية كما كانت حال العراق في غزوه الكويت. أما في الداخل، فتكون دولة البوليس والحذاء العسكري قد داست على كرامة كل فرد في الوطن، وأهرقت آخر قطرة اعتزاز وولاء له، وشطرت الشعب الواحد إلى شرائح ومجموعات تعادي بعضها بعضا. فهناك الشريحة الضيقة المحيطة بالنظام وهي المنتفع الأول، ومستعدة للقتال حتى الرمق الأخير دفاعا عن النظام لأن مصالحها ومنافعها ورفاهيتها أصبحت جزءا عضويا منه. وهناك الشرائح الأوسع وهي الأمن والاستخبارات المنتشرون في طول البلاد وعرضها لنشر الخوف والشك بين الجميع، حتى صار الأخ يخشى أخاه من التجسس عليه. وهناك الحلقة الأكثر اتساعاً وهي الجيش "الوطني" الذي يتم استدعاؤه عند الحاجة ليدك هذه المدينة أو تلك عن بكرة أبيها لأنها "خرجت عن الوطن وأعلنت الخيانة" بكونها عارضت النظام أو أحتجت عليه. وهكذا، وطيلة عقود من ممارسة استعداء تلك الشرائح على الشعب وهي التي ينتمي أفرادها أصلا إلى الشعب وطوائفه، فإن عملية التفسخ الوطني تكون قد أتت على بقايا أي اجماع سياسي واجتماعي داخل الدولة. ويتذرى الأفراد ويعودون إلى بدائية انتماءاتهم الأولية، القبلية، والطائفية، والاثنية، لأنهم يجدون فيها الدفء والحماية من البطش القادم من النظام والذي يتربص بهم على حدود عائلتهم، أو قبيلتهم، أو طائتفهم. والنظام الذي أبدع في تصنيع آلات وسياسات البطش والقمع ومطاردة الفرد، أبدع في الفشل على صعيد الخدمات الاجتماعية، ورفع سوية الفرد الاقتصادية، وتوفير فرص العيش الكريم، وتحسين الاقتصاد، ورفع كفاءة التعليم، ومواكبة التنافس العالمي في الصعد المختلفة.

وبعد كل ذلك وعندما يضيق حبل المشنقة على عنق النظام يتذكر أن عنده شعبا، وأن في الوطن الحزين الجريح ملايين من الذين داستهم سياسات البطش الطويلة، وطحنهم الفشل الاقتصادي والاجتماعي والطائفي. يتم تذكر ذلك الشعب وتبدأ طاحونة الإعلام التحريضي والشعبوي و"النضالي" لتطلب من الشعب الاستعداد لخوض المعارك المصيرية والتضحية "دفاعا عن الوطن" فيما الدفاع المطلوب هو عن النظام والشريحة المنتفعة الضيقة التي تحيط به. وعندما يكون الخصم الخارجي هو الولايات المتحدة التي تلعب بالأنظمة كما تشاء فتارة تدعمها في سياسات البطش وحتى غزو الأشقاء والسيطرة عليهم ضمن صفقات سياسية فجة ومقرفة، وتارة تغضب عليهم فتريد أن تتخلص منهم، فإن الغالبية الكاسحة في أي شعب عربي تستنفر عاطفيا ووجدانياً. فالولايات المتحدة التي لم تنجح في المنطقة العربية إلا بتكوين رصيد فلكي من العداء لها بسبب سياساتها الإمبريالية والوحشية والغبية هي أفضل عدو لتلك الأنظمة يمكن استخدامه لإثارة النصرة والتأييد. وعندها يقف الشعب حيران ومشطوراً، فهو إزاء أي معركة مع الولايات المتحدة لا يستطيع أن يؤيدها ضد نظام الحكم المحلي حتى لو كان فاسدا، وهو يعلم أن النظام نفسه ما كان عمره سيطول لولا صفقاته مع الولايات المتحدة نفسها. والشعب نفسه لا يقبل أيضا أن يخون ضميره فيقف مدافعاً بصلابة عن نظام الحكم ذاك، حتى لو رفع النظام عقيرته صباح مساء بالتحريض والتعبئة لأن "الوطن مستهدف"، بينما هو يعلم أن حكم العصابات هو المستهدف. ننتهي في خلاصة المطاف إلى وضع شبه سوريالي، تماما كما حدث في العراق، حيث الشعب يشعر بالشلل التام عن اتخاذ موقف واضح. فهو بين تأييد نظام فاسد عانى منه كثيرا أو أمريكا إمبريالية وفاسدة أيضا، يقف على الحياد ويظهر لامبالاة مدهشة. ولأن كل شيء في دولة البوليس والقهر الأمني كان قد بني على الخوف والقهر والفساد المالي والإرتشاء، فإن أول ما يتبدى لنا عندما يخوض نظامها معركة "مصيرية" هو هشاشة هذا النظام وفقدانه للأساس المتين والانفضاض الجحافلي من حوله. ألم يتبخر جيش صدام حسين في لمح البصر، وتذوب كل أجهزته الأمنية وفدائييه وفيالقه بشكل مدهش؟ أين ذهبوا؟ ببساطة أتخذوا موقف الحياد وعادوا إلى بيوتهم. قرروا أن النظام الفاسد لا يُستحق أن يدافع عنه. والنظام الفاسد وضع نفسه بين الشعب وبين الوطن فما عاد الشعب وأفراده يرون الوطن المختفي وراء قهر النظام. وكل شعارت التعبئة والحشد واستخدام كل الشطارات اللغوية حتى الرمق الأخير لاخفاء الصبيانيات ونتائج تفكير وحكم وممارسات العصابات في الداخل والخارج ما عادت تجدي، وحبل المشنقة يزداد التفافا حول العنق التي تطاولت بالغرور كثيراً.

مصادر
الشرق (القطرية)