عشية انطلاق الاتصالات الدولية تمهيدا لانعقاد جلسة مجلس الامن بعد ظهر الثلثاء المقبل لمناقشة تقرير لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بدا ان القيادة السورية اخذت على محمل الجد احتمال صدور قرار جديد يتناولها ولم تتصرف بتجاهل ولامبالاة كما فعلت حيال القرار 1559. فتحركت الديبلوماسية السورية بكل قواها على نحو لم تعرف له مثيلا. فوجّه الرئيس السوري بشار الاسد رسائل الى رؤساء الدول الدائمة العضوية في مجلس الامن واجرى اتصالات شخصية مع عدد من هؤلاء كان ابرزهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في وقت نشط الديبلوماسيون السوريون المعتمدون في واشنطن ونيويورك وفرنسا وبريطانيا وحتى في الجزائر في تحرك سعى الى الالتفاف على نتائج تقرير القاضي ديتليف ميليس وعكس نية لدى القيادة السورية للتعاون مع لجنة التحقيق. وكانت نتيجة هذا التحرك المحموم صدور سلسلة تعهدات عن القيادة السورية يمكن اختصارها بالآتي:

- اولا ابداء الرغبة في التعاون مع لجنة التحقيق رغم كل الاتهامات والانتقادات التي رمى بها المسؤولون السوريون القاضي الالماني واعلان السفير السوري في نيويورك فيصل المقداد ان التعاون السوري مع اللجنة كان تعاونا كاملا مما يثير السؤال حول ما يمكن ان تضيفه سوريا الى هذا التعاون اذا كان كاملا ولم يعد هناك ما تضيفه في رأيها.

- دعت السفيرة السورية في فرنسا صبا ناصر الى معاودة الحوار السياسي بين باريس ودمشق مبدية رغبة بلادها في الا تكون صديقة لفرنسا في المنطقة فحسب، بل ان تكون حليفة لها. وفي هذه الدعوة الملحة تحت وطأة قرار دولي في طور الصياغة وتشكل فرنسا احد طرفيه الى جانب الولايات المتحدة تعبير عن مدى "السخونة" التي شعرت بها دمشق فدفعتها الى محاولة احياء او الاستفادة من الممر الاوروبي الاسهل الذي لا يزال متاحا لها بدلا من عبور الجسر الى الولايات المتحدة فورا.

- اكد السفير المقداد في كلمته امام مجلس الامن نية بلاده العمل ما في استطاعتها من اجل دعم استقرار لبنان. ومع ان ذلك اتى في سياق الرد على الاشتباه في ضلوع مسؤولين سوريين في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فان مجموعة المطالب الاميركية التي كررها الرئيس الاميركي جورج بوش تشمل ايضا احترام سيادة لبنان واستقلاله وعدم زعزعة استقراره.

هذه التعهدات في مقاربة سوريا لمناقشة تقرير ميليس امام مجلس الامن تفترض جملة اجراءات وامور تحتاج الى ترجمة فعلية، باعتبار ان ما يؤخذ على سوريا عموما هو السعي الى تمييع كل الوعود والالتزامات والمماطلة فيها الى ما شاء الله بغرض كسب المزيد من الوقت لعل تطورات اقليمية او دولية معينة تقلب المعطيات وتبدل الظروف فتخف وطأة الضغوط عليها او تزول. وحين قرر ميليس التوجه الى سوريا سائلا التعاون في التحقيق، كان على بينة من انه لن يجد التعاون الذي يرغب فيه ، وخصوصا بعدما اتى الرد على طلبه لقاء مسؤولين سوريين قبل ايام معدودة من تقديم تقريره الاجرائي في 25 آب الماضي. فبدا الجواب السوري من حيث توقيته لمن بات يعرف قراءة الاسلوب السوري في التعاطي، وكثر باتوا يفعلون، حوارا او تعاونا على حافة الهاوية. حتى ان تقديم ميليس تقريره في الموعد الذي اختصره اساسا من المدة الممددة له اي في 21 تشرين الاول الجاري رغم عدم نهائية هذا التقرير على ما اوضح هو نفسه يبدو بالنسبة الى البعض محاولة للحصول على تعاون سوري جدي قبل نهاية مدته في 15 كانون الاول المقبل. اذ لو انه لم يقدم تقريره او ما سماه في مؤتمره الصحافي في الامم المتحدة الشق الاساس من التقرير لكانت استمرت المماطلة السورية او التعاون المجتزأ والمحدود والمؤطر ضمن قيود قاسية مستنفدا كل المدة التي حددت للجنة التحقيق من دون طائل.

صدور القرار الدولي بصيغته المقترحة اي مطالبة سوريا بالتعاون وتقديم المشتبه فيهم الى اللجنة للتحقيق معهم يرمي كرة المسؤولية في مرمى الرئيس السوري الذي التزم ذلك او ما يشبهه في حديثه الى شبكة "سي ان ان" الاميركية للتلفزيون كما في رسائله التي وجهها الى رؤساء الدول وكشفتها احدى الصحف الاميركية من انه سيتعاون مع اللجنة ويقدم من يثبت اتهامه الى المحاكمة، فضلا عن انه يفوت عليه فرصة تعبئة الرأي العام السوري او العربي في وجود قرار بمضمون سياسي يستهدف سوريا واستقرارها وموقعها في المنطقة. والتحدي كبير في ظل اجماع المجتمع الدولي بما فيه روسيا والصين على صيغة القرار المطروح اي حماية سوريا من اي عقوبات قد تستهدفها في مقابل تعاون جدي مع لجنة التحقيق الدولية. لذلك فان أفضل خيار عرض على سوريا هو التعاون بجدية وعلى نحو ملتزم.

لكن الشكوك تبقى كبيرة في نوع التعاون الذي يمكن ان تقدم عليه القيادة السورية مع الاشتباه في شخصيات من عائلة الرئيس نفسه، على ما ورد في نسخة تقرير ميليس غير الاعلامية لان ذلك يطرح خيارا صعبا جدا على الرئيس السوري قد يكون اصعب من خيار التجاوب مع المطالب الاميركية التي تطالب سوريا بمجموعة اوراق لا تزال تمسك بها في لبنان والعراق وفلسطين. وتخشى مصادر ديبلوماسية ان تعمد سوريا مجددا الى المماطلة ومحاولة كسب الوقت في حين ان الاميركيين غير مستعدين لابداء مرونة وصبر كما كانت الحال مع النظام الليبي. وهم مستعجلون لحصد نتائج سريعة من سوريا في ظل الوضع الضاغط في العراق فضلا عن وضع داخلي صعب للرئيس الاميركي في ظل تحديات كثيرة يواجهها ، فضلا عن ان محاولة اللعب على المستوى الاوروبي قد لا تكون ناجحة في هذا الوقت باعتبار ان حل المشكلة مع الفرنسيين لا يحل مشكلة سوريا في حين ان العكس قد يكون صحيحا الى حد ما.

مصادر
النهار (لبنان)