خلال احدى جولات المفاوضات في واشنطن بين الوفد الفلسطيني، برئاسة الدكتور حيدر عبد الشافي والوفد الاسرائيلي برئاسة روبنشتاين، وبعيدا عن صقيع اوسلو، حيث لم تكن لدى الدكتور عبد الشافي اية فكرة عما كان يدور هناك.

وقتئذ ونقلا عن عبد الشافي، دار الحديث التالي بين رئيسي الوفدين:

روبنشتاين: هل تعتقد ان اسرائيل مضطرة الى الجلوس مع الفلسطينيين؟

عبد الشافي: نعم.

روبنشتاين: ان لم تقم اسرائيل بذلك، ماذا تستطيعون أن تفعلوا؟ اي قوة تمتلكون؟ وما هي خياراتكم حتى تجبروا اسرائيل على المفاوضات؟!

عبد الشافي: لدينا العمق والدعم العربي، ولدينا الشرعية الدولية، ولدينا المقاومة والانتفاضة.

روبنشتاين: هذه كلها مراهنات خلبية وسأفندها لك واحدة تلو الاخرى، ولكن اسرائيل تجلس معكم لاسباب وأهداف أخرى بعيدة المدى لا تدركونها انتم الان.

عبد الشافي: هل لك ان تفند لي هذه المراهنات، ثم هل لي ان اعرف لماذا تجلسون معنا؟

روبنشتاين: الدعم العربي جربتموه خلال نصف قرن من الزمان، ونتيجة الحروب العربية-الاسرائيلية واضحة. لم تسترد لكم ارضا، بل خسرتم دوما مزيدا منها.

أما الدعم العالمي فلم يكن الا قرارات بحبر على ورق، فاسرائيل لو فكرت غدا تدفع كل عربي ضمن حدود 48 ومن هم في غزة والضفة وترمي بهم داخل الحود السورية والمصرية والاردنية واللبنانية فلن تكون هناك اكثر من صيحات واحتجاجات وقرارات لايام معدودات، ثم تذهب بعد ذلك الى طيات النسيان!

عبد الشافي: (بحنق واستخفاف) وما الذي يجلسكم معنا اذا؟

روبنشتاين: يجلسنا معكم حسابات الزمن، فاسرائيل الان في ذروة قوتها وستحافظ على ذلك لعقود من الزمن، وانتم في قاع ضعفكم ولعقود من الزمن، ولكن حالات القوة والضعف ليست دائمة.

وبعد عقود عندما يكون الفلسطينيون اقوياء ولو كان الاسرائيليون ضعفاء لن يكون عنصر القوة قابلا للاستخدام بعد عقود من التعايش والسلام، فلا خشية على اسرائيل من الزوال.

نجلس معكم في لحظة قوتنا القصوى وضعفكم الاقصى لنمنعكم من استخدام القوة ضدنا في لحظة قوتكم ولحظة ضعفنا، فلو كنتم في مكاننا الان لما فعلتم الا هذا.

شعر الدكتور عبد الشافي بغصة ناشفة، لا بد انه دار في خلده حوار مرير:"

هذا العنصري الصهيوني المستعمر يفكر لقرن كامل في مصير اسرائيل ويتصورني لا افكر الا في اللحظة الحاضرة، ولا يدرك ان اسرائيله ستذوب ضمن محيط جارف سكانيا وثقافة معمرة ولغة خالدة وتاريخ متسلسل.

هو يفكر في الغاء العداء لاسرائيل، وانا افكر في الغاء عدوان اسرائيل. هو يفكر بالغاء اي مقاومة لعدوان اسرائيل، وانا افكر بألا ينسى احد عدوانها ويستمر بمقاومة هذا العدوان".

على الارض وفي النتائج السياسية وبعد عقد مما كان حيدر عبد الشافي وروبنشتاين بصدده في واشنطن تجاوز أوسلو وعباس عبد الشافي، ولكنهما لم يحققا حلم روبنشتاين تماما، فعلى روبنشتاين ان يجتث مسألة العداء (و"المقاومة" وهي بهذا السياق السطو المسلح الذي تمارسه اسرائيل) ليس من نفوس الفلسطينيين وعقولهم بل من حكومة اسرائيل والاسرائيليين بشكل عام.

وفي الوقت ذاته لم يستطع ان ينتزع روح المقاومة من الشعب الفلسطيني والرفض الفعلي لاستعمارهم لفلسطين.

لم يخيب الفلسطينيون آمال روبنشتاين ونظريته ورؤى معسكره فقط، بل نسف نظريته تماما جدار فصل عنصري لا يشيده من يريد ان يزيل العداء لاسرائيل بعد مئة عام! فكل حجر بهذا الجدار هو عام من العزلة والكراهية والتصميم بانه في حال تغير موازين القوى فالجدار سيتساقط فوق رؤوس اصحابه.

صحيح ان اسرائيل تضمن تفوقها على العرب والمسلمين لعقود قادمة، ولكن هذه العقود ستتقلص وتقصر حتما:

امريكا لن تبقى القوة الاولى عالميا للابد.

من صادق اسرائيل وصمت عن عنصريتها واحتلالها مرغما بسبب اميركا سينفض عنها حال حدوث التغيير الحتمي لموازين القوى العالمية.

عناصر قوة اليوم، وعلى رئسها التقانات لم تعد حكرا على احد.

وما اراد روبنشتاين ان يتجاوزه او يقضي عليه وتحديدا جذوة او حس المقاومة لاستعمار اغتصب الارض والناس ثبت بالتجريب انه لن يحدث.

لقد خرجت اسرائيل من غزة دون تفاوض مع الفلسطينيين، لا كما اراد روبنشتاين ولا على طريقة نتنياهو او شارون أو حتى باراك، خرجت وهي تجهز لها حبسا ضمن جدران على اليابسة (حتى من جانب مصر) وداخل جدار المتوسط وسقف في السماء. هكذا تماما ستفعل في الضفة الغربية والجدار جاهز من الجهات الخمس.

نظرية روبنشتاين لم تكن فاعلة ولا واقعية ولم تنجح، ولا نظرية عبد الشافي نجحت أو كانت فاعلة او واقعية.

فقط نجح الفلسطينيون والاسرائيليون الذين كانو يعرفون ان جدران الفصل تستوطن الروح والعقل، فلا السنون تزيلها ولا القوة تنسفها ولا الضعف يمسحها من ذاكرة المظلومين والمقهورين.

استعمار اسرائيل لفلسطين وبطشها وقهرها لاهلها نسف رؤية روبنشتاين، واستمرارها بما تفعل يفرخ ما تسميه "الارهاب".

تفكيرها بقوتها وضعف الاخرين ينتشل الاخرين من الضعف ويعجل بالنهاية التي لا يريدها روبنشتاين. وجدران الفصل بكل المقاييس هي ذروة الضعف ورمزه ايضا. هنا نجح الدكتور عبد الشافي، من حيث يدري او لا يدري، فدوام الحال من المحال.