ماذا يعني أن تكون رئيساً لروسيا؟ وما هي أولويات بوتين وهمومه الكبرى الأساسية؟ إن كنت تبغي إجابة على هذين السؤالين، فدونك جدول أعماله المزدحم خلال الأسبوع الماضي، لكونه يلقي بعض الضوء على طبيعة وحجم المهام التي يواجهها رئيس دولة، تعادل مساحتها 1,8 قياساً إلى مساحة الولايات المتحدة الأميركية• ولنا أن نبدأ بيوم الاثنين الماضي الموافق الرابع عشر من الشهر الجاري، حيث استقبل الرئيس بوتين نظيره الأوزبكي إسلام كريموف، بالكثير من الصخب والمهرجانات والحفاوة، بمقر الحكومة الروسية في الكرملين• وهناك وقع الزعيمان على معاهدة ترمي إلى إعادة جمهورية أوزبكستان -التي تعد أهم جمهوريات آسيا الوسطى على الإطلاق، بسبب كثافتها السكانية البالغة نحو 26,4 مليون نسمة، وبسبب احتياطياتها الكبيرة من النفط والغاز- إلى المدار الروسي مجدداً• وما هذه الخطوة سوى تأكيد واضح على حرص موسكو واهتمامها باستعادة نفوذها وسيطرتها على جمهوريات آسيا الوسطى التابعة للاتحاد السوفييتي سابقاً• يذكر أن هذه الجمهوريات كانت قد انفصلت واستقلت بذاتها لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي في عام ،1991 ومن يومها أصبحت هدفاً استراتيجياً للتدخل والتوغل الأميركيين في شؤونها• وأهم ما تمخضت عنه هذه الاتفاقية أنها فتحت الباب أمام عودة الوجود العسكري الروسي في أوزبكستان، مقابل إنهاء الوجود العسكري الأميركي في هذه الجمهورية• وعليه فقد أعطى الرئيس كريموف واشنطن مهلة ستة أشهر في الصيف الماضي، لسحب قواتها وقاعدتها العسكرية الحالية من كارسي-خان أباد، المجاورة للحدود المشتركة مع أفغانستان•

وفي اليوم ذاته -الرابع عشر من نوفمبر الجاري- أدار بوتين اهتمامه ونظره إلى القضايا والمشكلات الداخلية لبلاده، وذلك بترقيته لدميترى ميدفيديف، نائباً لرئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، وأناط به مهمة محددة ألا وهي الارتفاع بمستوى حياة كل فرد من أفراد المجتمع الروسي• ويعرف ميدفيديف الذي تنعته الصحافة الروسية بلقب ’’الوزير الكبير’’ بأنه شاب روسي مقتدر وذو كفاءة عالية، أهلته لأن يكون الرأس الفعلي للكرملين فيما يشبه حكومة الظل• كما أهلته المهارات والكفاءات ذاتها، لتولي إدارة شركة ’’غازبروم’’ الشركة العملاقة المنتجة للنفط والغاز الروسي• هذا ويتنبأ بعض المراقبين والمحللين بألا يقدم بوتين على ترشيح نفسه لدورة رئاسية ثالثة في انتخابات عام 2008 -وهو أمر محسوم سلفاً بموجب نصوص الدستور- إلا أنه ليس مستبعداً أن يعمل على تنصيب ميدفيديف خلفاً له، في حين يتولى بوتين بنفسه إدارة شركة ’’غازبروم’’ التي تعتبر الدينامو المحرك للاقتصاد الروسي برمته•

وما هي إلا ثلاثة أيام فحسب بعد ذلك اليوم العامر بالحيوية والنشاط، حتى طار بوتين إلى ميناء ’’سامسون’’ الرئيسي الواقع على ساحل البحر الأسود، حيث التقى برئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، وكذلك برئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني• وفي ذلك الميناء احتفل القادة الثلاثة بمراسم افتتاح مشروع هندسي عظيم عملاق، بلغت تكلفته المالية 3,4 مليار دولار، هو خط أنابيب ’’بلو ستريم’’ الذي أنشئ تحت مياه البحر الأسود، لكي يعمل ناقلاً للغاز الطبيعي الروسي إلى تركيا، ثم إلى جنوبي أوروبا في مرحلة لاحقة، وربما من هناك أيضاً إلى إسرائيل• يذكر أن شركة ’’بلو ستريم’’ هي شراكة متكافئة بين كل من شركة ENI الإيطالية ونظيرتها الروسية ’’غازبروم’’ وأنها أنشئت خصيصاً للنهوض بمشروع الأنابيب الروسية المذكور، الذي يتوقع له أن يحمل اعتباراً من العام الجاري 16 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي الروسي إلى تركيا وما جاورها• ويمثل هذا المشروع نموذجاً ساطعاً على قوة عزم السياسات الروسية الخاصة بتصدير الطاقة•

أما من الناحية الهندسية البحتة، فقد أصبح هذا الخط البالغ طوله 1,213 كيلومتر، جاهزاً للتشغيل منذ فبراير من عام •2003 وينقسم الخط إلى ثلاثة أجزاء، منها الجزء الروسي البالغ طوله 373 كيلومتراً، ثم الجزء الثاني الذي يبلغ طوله 396 كيلومتراً الممتد في قاع ميناء ’’سامسون’’ التركي على عمق ما يزيد على الألفي متر تحت المياه، ثم أخيراً الجزء الثالث البالغ طوله 444 كيلومتراً، والذي يمتد من ’’سامسون’’ إلى أنقرة• هذا وتعادل روسيا المملكة العربية السعودية بصفتها منتجاً عالمياً للنفط، إذ يبلغ حجم إنتاجها اليومي نحو 10 ملايين برميل• أما صادراتها من النفط والغاز الطبيعي، فتعادل ما يزيد على نسبة 50 في المئة من عائدات صادراتها، وحوالي 25 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي، إضافة إلى كونها تعادل ثلث مجموع عائداتها الضريبية• وبفضل هذا الإنتاج، مقترناً بالارتفاع الأخير لأسعار النفط في الأسواق العالمية، فقد تمكنت روسيا من سداد قسط كبير من إجمالي مديونيتها العالمية•

وبما أن روسيا تعد مصدراً رئيسياً لوقود النفط والغاز الطبيعي لدول أوروبا الغربية، فقد ثارت حفيظة بعض هذه الدول، من اعتمادها الكلي على روسيا في هذا المصدر الحيوي الاستراتيجي• وفي الوقت ذاته فقد شرعت عدة دول في إنشاء خط ناقل للغاز الطبيعي عبر أوروبا الشمالية، بهدف زيادة الصادرات من هذا المنتج، التي يأتي معظمها عبر أوكرانيا• وليست أوروبا وحدها هي ’’الزبون’’ الذي يتلهف لصادرات النفط والغاز الروسيين في عالم اليوم• فهناك الصين وظمؤها الذي لا يرتوي للنفط بسبب النمو الاقتصادي العملاق الذي تشهده في مختلف قطاعات وخطوط إنتاجها• واعتباراً من العام المقبل ،2006 يتوقع أن تبدأ روسيا بتصدير نحو 15 مليون طن من النفط الخام إلى الصين، عبر خطوط السكك الحديدية•

يذكر أن مراسم الاحتفال بافتتاح خط الأنابيب الروسي في فندق ميناء ’’سامسون’’ التركي قد أحيطت بإجراءات أمنية مشددة• من ذلك أن الرئيس الروسي بوتين، كان يخضع وحده لحراسة فريق أمني مؤلف من 80 فرداً• جاءت هذه الإجراءات متأثرة بشائعات سرت حول مد متمردي الشيشان تنظيم ’’القاعدة’’ بقطع من صاروخ SA-81 الذي يبلغ مداه 3 آلاف متر• وهي المعلومات التي دعت كلاً من روسيا وتركيا وإيطاليا إلى إعلان حالة التأهب القصوى في مكان الاحتفال• وغني عن القول إن مجرد شائعة كهذه، كفيل بإثارة حالة من الذعر في الأوساط الأمنية، على خلفية ما يعرف عن أساليب ’’القاعدة’’ وهجماتها المباغتة على مثل هذه المناسبات والمجموعات•

ثم تلا ذلك أن سافر بوتين في الثامن عشر من الشهر نفسه إلى بوسان بكوريا الجنوبية، وذلك لحضور منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ، الذي حضره قادة كل من الولايات المتحدة الأميركية والصين واليابان، إلى جانب عدد آخر من الشخصيات القيادية العالمية• وعلى هامش المنتدى نفسه، عقدت سلسلة من الاجتماعات الجانبية، من بينها ذلك الاجتماع الذي جرى بين كل من الرئيس بوتين ونظيره الأميركي جورج بوش• وقد خصص ذلك الاجتماع لمناقشة السبل الكفيلة بالتصدي لأزمة البرامج النووية الإيرانية، والعمل المشترك من أجل حلها• وما كل ذلك النشاط المحموم، سوى جدول أعمال رئاسي للزعيم الروسي فلاديمير بوتين، خلال أسبوع واحد فحسب!

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)