باريس ـ وسيم الأحمر

لعل مؤتمر "محور من أجل السلام" الذي أقامته شبكة فولتير في بروكسل أخيراً (17 و 18 نوفمبر 2005)، كان مبادرة مدنية للتفكير بمستقبل خالي من النزاعات والسيطرة الأحادية على سياسات العالم. إذ حاول المشاركون عبر مداخلاتهم وبيانهم الختامي إنتقاد النظام الدولي الحالي، الخاضع للسيطرة الأميركية والتفكير بتجاوز هذا النظام، لبناء آخر أكثر عدلاً وأكثر توازناً.

ومن حيث المبدأ، فكرة السلام الدائم ليست جديدة، وهي سيطرت على كلاسيكيات الفكر السياسي وعلم السياسة بشكل عام. وكانت غالباً مرتبطة بشكل وثيق بمناطق النزاعات والحروب الدموية. فبعيد حرب الثلاثين سنة وضع غروتيو شروطاً للإصلاح والتطوير بغية ضمان السلام. بينما الأب سان بيير وضع مشروعه السلمي عقب نهاية العهد الدموي للويس الرابع عشر. إلى أن أتى الفيلسوف كانط ووضع أسس مشروع كتابه "من أجل سلام دائم" في ظروف الثورة الفرنسية، في العام 1795 وبداية حروب فرنسا مع العروش الأوروبية. وفرض مشروع كانط نفسه في أدبيات الفكر السياسي، من خلال أفكار أساسية طرحها كمكونات لميثاق السلام الدائم، وسيما فكرته حول تحالف الشعوب من أجل السلام.

وثم أنشأت عصبة الأمم المتحدة إثر الحرب العالمية الأولى، وأخيراً تم إنشاء منظمة الأمم المتحدة بعيد الحرب العالمية الثانية. ولعل أكثر ما يميز التفكير بالسلام، هو إستمراره وإستناد كل مشروع على ما سبقه والخروج منه إلى ميثاق جديد يطمح إلى وضع حد نهائي للنزاعات. فجان جاك روسو قرأ ولا شك الأب سان بيير. وقرأ كانط كلا الاثنين قبل أن يصيغ مشروعه. وهكذا فإن الرئيس ويلسون، أحد مؤسسي عصبة الأمم، لم يجهل نص كانط. ثم أرادت منظمة الأمم المتحدة البناء على إنجازات عصبة الأمم. ووصلنا إلى إقامة هيئة الأمم المتحدة، وبعد؟

ربما نجحت المنظمة بمنع إشعال حرب عالمية ثالثة، لكنها فشلت في الحد من النزاعات الإقليمية، وبضمان عدالة على المستوى الدولي، ترسخ سلام دائم. وما نشهده اليوم ومنذ نهاية الحرب الباردة، وخاصة منذ أحداث أيلول 2001 هو أن النظام الدولي الأحادي لا يتعايش مع سلام دائم. وبأن التوازن الدولي شرط لحفظ السلام.

يرفض المشاركون في بروكسل إعطاء حق لنظرية صراع الحضارات التي وضعها هينتغنتون بعيد الحرب الباردة. وتجد آذاناً صاغية في كل حدب وصوب. و هينتغنتون لا يؤمن بالسلام الديمقراطي. فحسب نظريته قد يقوم سلام وسط كل حضارة وربما بين الحضارات. لكن لن يكون سلام ديمقراطي ودائم. ومن هنا تأتي أهمية بل ضرورة التفكير بوجه آخر للنظام الدولي الحالي. وربما يكون طرح الفكرة، نوعاً من اليوتوبيا السياسية المعاكسة للواقع السياسي الدولي اليوم لكن من الضروري بأي الأحوال طرح السؤال الآتي: هل وصل هذا النظام اليوم إلى نهايته؟ بمعنى آخر هل يمكن الاستمرار بنفس آليات النظام الدولي القائمة حالياً؟ من خلال هذا السؤال بدأت قوى عديدة عبر العالم بالتحرك والتفكير بوجه آخر للنظام الدولي. وتختلف طروحات هذه القوى في مضمونها بشكل جذري أحياناً فبين ما يركز البعض على مبدأ السيادة، الذي يقوم عليه النظام الدولي اليوم، كعائق أمام نشر قيم عالمية ديمقراطية يرى آخرون ومنهم المشاركون في مؤتمر بروكسل بأن تجاوز سيادة الدولة كان سبب رئيسي للحروب والنزاعات وسيطرة الولايات المتحدة على موارد العالم. وتتفق هذه القوى على الغاية وهي بناء مستقبل أكثر عدلاً وسلاماً دائماً. وبهذا المعنى قد يكون مؤتمر "محور من أجل السلام" بما تضمنه من طروحات، وبما يتمتع به من تنوع جغرافي وثقافي مبادرة في هذا الاتجاه من شأنها في حال أستمرت تشكيل تيار عالمي يسعى لوضع مفاهيم ثقافية جديدة للعلاقات الدولية، هي نفسها بحاجة للتحديد والتطوير. فالمشاركون لا يشكلون كلاً متجانساً، ويتفقون ربما على طروحات معينة لكنهم غير متفقين على مفاهيم أساسية مثل عملية الدمقرطة مثلاً. إذ بدت هوة واسعة بين مفهوم بعض الأوروبيين لها كآلية تقوم على توزيع طائفي وإثني، وبين مفهوم بعض القوى العلمانية المشرقية للديمقراطية، كعملية ثقافية سياسية لا تقوم دون نظام علماني. وإن كان ثمة إتفاق على رفض التدخل الخارجي تحت ذريعة نشر الديمقراطية، لكن من الضروري مواصلة الحوار ضمن "محور من أجل السلام" ومع الخارج، للوصول إلى مفاهيم مشتركة حول قيم أساسية ربما أهمها الديمقراطية. وربما من المفيد إعطاء المشروع بعداً أكاديمياً موضوعياً أكثر منه تظاهرياً وإحتفالياً.

لا يمكن أن نعتبر إعلان بروكسل وثيقة سلام جديدة إنما مبادرة قابلة للتطوير والبحث ضمن المحور ومع الخارج. ومن شأنها في حال إستمرت وضع أسس وآليات لمشروع سلم عالمي. يتميز بأنه إنتاج جماعي وليس فردي، ومن هنا أهميته.