الحياة / أكرم البني

يخطىء من يعتقد أن عبارات التحدي التي تقتحم المجتمع السوري اليوم يمكن أن تقف على قدميها من دون ترويج مدروس لأفكار سياسية تثار في خلفية المشهد غرضها الخفي زرع الأمل في نفوس محبطة ويائسة، ونشر نوع من الاطمئنان بأن ثمة جدوى من سياسات المواجهة... أفكار هي أقرب ربما الى الرغبات والأماني منها الى المنطق العلمي والحسابات الدقيقة أو لنقل أشبه بأوهام لا يمكن أن يصمد من تغريه سياسة التحدي والتصعيد إلا بالاستناد اليها.

أول هذه الأوهام - ويحظى بأهمية دعاوية خاصة - هو مقاربة الوضع العراقي بالحرب الفيتنامية ونتائجها وإشاعة فكرة تقول بأن الأميركيين يغوصون أكثر فأكثر في المستنقع العراقي وأنهم قاب قوسين أو أدنى من هزيمة محققة، وما علينا إلا الانتظار لبعض الوقت حتى تفتح الأفاق رحبة، وتكون المناخات الضاغطة قد أصبحت من ذكريات الماضي.

وإذا كان من الصواب الاعتراف بأن الوضع الأمني الذي يعيشه العراق اليوم هو مؤلم وصعب وأن الإدارة الأميركية تعاني مشاكل كبيرة هناك، جراء سلسلة من الأخطاء والتقديرات المغلوطة لمجتمع متخم بتعقيدات سياسية واقتصادية، لكن ليس من الصواب أبداً مقارنة الموقف الأميركي في العراق بما حدث في فيتنام من تطورات أفضت الى هزيمة عسكرية محققة، وخطأ مثل هذه المقارنة يعود لأسباب متنوعة، منها اختلاف الظروف العالمية اختلافاً شديداً، فالحدث الفيتنامي جرى في مناخات الحرب الباردة واحتل موقعاً مفصلاً لحسم واحدة من مناطق الصراع بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي ما ساهم في تمرير مختلف أوجه الدعم السوفياتي والصيني للمقاتلين الفيتكونغ. أما الحرب على العراق فقامت بها دولة هي اليوم رأس النظام العالمي ومتحررة من أعباء الصراع مع منافس عالمي قوي وتملك هامشاً واسعاً من المناورة في إدارة المعركة والتحكم بنتائجها. ومن الأسباب أيضاً ذلك الفارق النوعي بين عمليات متفرقة ومعزولة تطاول الانسان العراقي من دون تمييز وعبر أشنع الأشكال الإرهابية المدانة عالمياً وبين ما شهدته الفيتنام من مقاومة متنوعة الأساليب والطرق وواسعة النطاق ضد الجيش الأميركي بصورة شبه مطلقة، ناهيك عن المسافة الكبيرة بين حرب ضروس مدعومة بأكثر من نصف الشعب الفيتنامي مع وجود قاعدة استناد ودعم سياسي واقتصادي تمد المقاتلين بالسلاح والعتاد والحماية هي دولة فيتنام الشمالية وبين العمليات العسكرية التي تتركز في مواقع صغيرة وليس لها أي سند استراتيجي شرعي عالمي، سياسياً وقانونياً، ولا يغير هذه الحقيقة أن يحظى قطاع من المقاتلين العراقيين ببعض الدعم التكتيكي أو اللوجستي من دول إقليمية لها مصلحة في استمرار حالة الاضطراب وعدم الاستقرار الأمني في الساحة العراقية.

ثم لنعترف بأن ثمة فارقاً متميزاً قد لا يرضي الكثيرين، وهو أن غالبية الشعب الفيتنامي وقفت ضد العدوان العسكري الأميركي على أرضهم، بينما القوى العراقية المؤيدة عملياً للتدخل الأميركي في العراق هي أكثرية الشعب العراقي بدلالة هذا الانهيار السريع والمروع لنظام صدام حسين وبدليل حال الحياد الذي عرفته مناطق كثيرة في العراق إبان التقدم العسكري الأميركي وتالياً الحركة الشعبية الواسعة التي شاركت في الانتخابات الأولية التي جرت مطلع العام والجموع الغفيرة التي اندفعت رغم التهديدات والإرهاب للاستفتاء على الدستور في الخريف المنصرم، وأيضاً المشاركة الشعبية والسياسية الواسعة التي تتميز فيها انتخابات الجمعية الوطنية التي تجري في هذه الآونة.

صحيح أن العراقيين لم يستقبلوا الجيش الأميركي بالورد والأرز، لكن الصحيح أيضاً أن غالبية العراقيين تنفسوا الصعداء بعد إطاحة صدام حسين، والقسم الأعظم منهم، حتى ممن يرفضون الاحتلال، يؤيد وإن بصوت خفيض وجود القوات الأميركية وضرورة استمرارها حتى يأمن انتهاء بقايا النظام القديم ويتمكن من بناء دولة قوية وقادرة تعبر عن تطلعات الشعب العراقي.

يظهر أن ثمة ماكينة دعائية مهمتها إحلال الرغبات مكان الوقائع وتضخيم الأخبار على حساب الأحداث والحقائق، عند إظهار صور مئات الأميركيين المحتجين في واشنطن ونيويورك ضد استمرار الاحتلال الأميركي للعراق على أنها شبيهة بالتظاهرات المليونية التي اجتاحت أميركا إبان الحرب في الفيتنام وتواترت بصورة لافتة حتى أكرهت إدارة البيت الأبيض وقتئذٍ على سحب الجيش الأميركي من هناك. أو عند المبالغة في عرض حجم الخسائر التي تكبدتها القوات الأميركية في العراق والتي تبدو أشبه بلعب أطفال أمام الضحايا والخسائر التي تكبدتها إدارة البيت الأبيض في فيتنام.

وعلى رغم شيوع ميل غريزي عند الكثيرين بأن الأميركيين ربما أصبحوا بحاجة الى درس حقيقي على مثال الدرس الفيتنامي يلجم اندفاعاتهم العدوانية واستسهالهم شن الحروب، لكن هذا لا يسوغ تلقائياً القفز بخفة فوق الحقائق السابقة، فالمقدمات الخاطئة تقود حتماً الى نتائج خاطئة، والوقوف على أرض موضوعية وتقدير الأمور بحجمها الحقيقي لا كما تريد أن ترسمها النيات والحسابات الإيديولوجية، هو الطريق العلمية التي تساعد على فهم دقيق للأوضاع القائمة ورسم المهام الصحيحة للتعاطي معها.

الوهم الثاني يتجلى في إشاعة حال من الاطمئنان بأن أميركا غير قادرة على ضرب سورية عسكرياً لأنها اكتوت بنار التدخل العسكري في العراق، الى جانب خلق تطمينات بأن سورية قادرة على الصمود 29 شهراً في حال أقر مجلس الأمن عقوبات اقتصادية، بسبب ما تملكه من إمكانات نفطية ومن احتياطي من العملة الصعبة وشرط الاكتفاء الغذائي. ويبدو أنه لا ينفع لتغيير هذه القناعة تدخل رؤية اقتصادية علمية تقول بأن الزمن المقدر لمقاومة الحصار هو زمن تجريدي يرصد متطلبات المجتمع في حال السكون من دون أن يأخذ في الحسبان، نمو الحاجات الاستهلاكية كمتوالية هندسية بعد الأشهر الأولى من الحصار ما قد يفاقم بسرعة كبيرة العجز ويقلص بما يشبه الانهيار القدرة على التعويض، ناهيك عن إهمال الأثر المستقبلي المدمر الناجم عن هدر مدخرات سورية من العملية الصعبة من أجل تحدٍ سياسي وغرض تكتيكي لا طائل تحته، خصوصاً أن مجتمعنا مجتمع ضعيف ليس بين يديه سوى إمكانات متواضعة يفترض المحافظة عليها بالأسنان والأظافر كي يتمكن من المنافسة واحتلال موقع مرضٍ في الركب الحضاري!..

ثم نسأل وماذا بعد؟! ماذا بعد هذين العامين والنصف من مقاومة الحصار؟!.. ويأتيك الجواب جاهزاً، وكأنه معد مسبقاً، بإن الغرض هو ربح فترة زمنية تصل بنا الى موعد الانتخابات الأميركية حيث لم تعد ثمة فرصة للرئيس بوش كي يمدد ولايته! ما يعني أن أصحاب هذا الوهم يبنون مقدماتهم على وهم آخر، بإن تغيير سيد البيت الأبيض سيؤدي الى تخفيف الضغوط التي يتعرض لها النظام السوري أو على الأقل يوفر فرصة لتقدم سياسات أميركية من نوع آخر وبعض الزمن الضائع لالتقاط الأنفاس، أو يمنح هامشاً أوسع للمساومات والتفاهمات.

والحقيقة، يخطىء من يعتقد بأن جديد السياسة الأميركية ومشاريعها التدخلية المباشرة يقف وراءها الرئيس بوش وأعوانه من المحافظين الجدد، فهي وليدة عوامل موضوعية وفرها انهيار قواعد الحرب الباردة وتفرد واشنطن في إدارة العالم وإعادة صياغة مواقعه وفقاً لمخططاتها الاستراتيجية، وهي تالياً نتيجة طبيعية لما صارت إليه الولايات المتحدة من قوة عسكرية واقتصادية تتعاظم وتتوسع كل يوم، ما يمنح هذه السياسة ديمومة وقوة ودينامية تتجاوز إرادة رئيس ما أو إدارة بعينها ولا تقف عند فكر المحافظين الجدد أو المتنفذين اليوم في البيت الأبيض، وربما يفاجئك أن تعرف إن إدارة كلينتون الديموقراطية كانت أوضح من رفع راية الديموقراطية وحقوق الانسان وتدخلت عسكرياً مرات أكثر مما تدخلت إدارات جيمي كارتر ورونالد ريغان وجورج بوش الأب مجتمعة!.. وتالياً من الوهم الرهان على حصول تغير نوعي في اتجاهات السياسة الأميركية مع تغير الإدارات الأميركية ففي ذلك جهل بحقيقة تطور وتشابك مصالح النخب الأميركية ومدى النضج الذي استدعى موضوعياً هذا الشكل الجديد والدور الجديد في إدارة الصراع العالمي.

مشكلة النخبة الحاكمة في سورية أنها لا تزال تعيش في الماضي وحساباته ولم تأخذ في الاعتبار نوعية المتغيرات التي حدثت عالمياً واقليمياً، الأمر الذي أفقدها القدرة على رسم رؤية مستقبلية واضحة يمكن على أساسها صياغة سياسات ووضع تكتيكات متكاملة للخروج من حالة التدهور بأقل الخسائر والآلام.

ويوماً بعد يوم ينظر العالم الى سورية على أنها دولة منبوذة أو مارقة وقد راكمت الكثير من العداوات جراء سياستها الوصائية التدخلية في المنطقة وبسبب فشلها طيلة السنوات السابقة في تنظيف سجلها المتعلق بحقوق الانسان وتحسين صورتها عالمياً، وما يزيد الطين بلة أن تستمر السياسة السورية، مع احتدام أزمتها، في الهروب الى الماضي وتسعى بدلاً من البحث الجدي عن مخارج حقيقية لما هي فيه، نحو استجرار الوهم تلو الوهم ربما لأنها لا تعرف السباحة خارج هذه المياه أو لعل في الأمر محاولة لإقناع نفسها قبل إقناع الآخرين بأن ثمة جدوى مما تقوم به.