النهار / سركيس نعوم

لا احد داخل مصر وخارجها يستطيع القول ان الانتخابات الاخيرة لمجلس الشعب فيها استوفت معايير الديموقراطية كلها. فقمع السلطات الأمنية للناخبين سواء بالاهانة او بالضرب او حتى بالاحتجاز كان علنيا وقد نقلته وسائل الاعلام العربية والدولية على تنوعها. واستعانة هذه السلطات بمن يطلق عليهم المصريون اسم "البلطجية" الذين هم رديف شعبي اذا جاز التعبير للقوى الامنية المنفذة مصالح النظام السياسي والساهرة على حمايتها كانت واضحة للعالم اجمع. ومنع السلطات اياها الناخبين المصريين وخصوصا في الدوائر التي للمعارضة المصرية الاسلامية والوطنية نفوذ شعبي واسع فيها من الادلاء باصواتهم اكده شهود عيان ومعظم المراقبين للعملية الانتخابية. واقدام السلطة على التلاعب بقوائم الناخبين لمصلحة الحزب الوطني الحاكم اثار اعتراض الجسم القضائي النزيه في معظمه بل نقمته وقد جهر بذلك امام وسائل الاعلام المتنوعة. وهما اعتراض ونقمة لا بد ان تكون لهما اثار ونتائج على الحياة السياسية المصرية وعلى اداء النظام المصري في مستقبل قد لا يكون بعيدا.

لكن لا احد داخل مصر وخارجها يستطيع القول ان السلطات المصرية المكلفة حماية النظام وتأمين استمراريته بكل الوسائل بما في ذلك الانتخابات كانت مطلقة اليد في ادارة العملية الانتخابية الاخيرة بطريقة تؤمن الفوز الساحق لمرشحي الحزب الوطني الحاكم والفوز الصغير لعدد من مرشحي المعارضة وذلك بغية الايحاء الى الداخل والخارج ان مصر سائرة في طريق استكمال الديموقراطية وان بتدرج على نحو لا يؤذي شعبها ومصالحها، وذلك رغم كل الممارسات القمعية. والسبب الاساسي لذلك كان تغير الموقف الدولي وتحديدا الاميركي من قضية الديموقراطية. فالولايات المتحدة ذات النظام الديموقراطي تعاملت في الماضي مع العالم الثالث بدوله وانظمته بطريقة المقايضة. اي تؤمن هذه الدول المصالح الحيوية والاستراتيجية الاميركية، وتحظى في المقابل بدعم اميركي واضح لانظمتها غير الديموقراطية الامر الذي يؤمن استقراراً مفروضا لكن ضرورياً للمصالح المذكورة. لكنها وخصوصا بعد الاعتداء الارهابي الذي تعرضت له في ايلول 2001 رفعت جديا لواء الديموقراطية في العالم وخصوصا في الشرق الاوسط واعتبرت سياسة المقايضة المذكورة خاطئة. وراحت تحض الدول الديكتاتورية او الشمولية وتحديدا الحليفة منها لها على التجاوب. وانعكس ذلك ضغطا متواصلا على النظام في مصر. لكنه بقي ضغط الحليف الاكبر الراغب في المساعدة لا ضغط الخصم والعدو الساعي الى التقويض او الى الاسقاط. وتسبب الضغط المذكور بارتباك القيادة المصرية التي التزمت وان شكلا اجراء انتخابات ديموقراطية وخصوصا بعدما لم تقنع انتخاباتها الرئاسية قبل ذلك باشهر المطالبين بديموقراطية مصرية في واشنطن. هذان الضغط والارتباك العلنيان جعلا الناخبين المصريين يتجرأون على ممارسة حقهم رغم الضغوط والقمع ربما للمرة الاولى في تاريخهم الحديث اي منذ اكثر من خمسة عقود. وجعلا السلطات المصرية اقل حرية في خنق اصواتهم. وكانت النتيجة احتلال المعارضين (وغالبيتهم من "الاخوان المسلمين") نحو 20 في المئة من مقاعد مجلس الشعب. وكان يمكن ان تكون هذه النسبة اكبر بكثير لو احترمت كل معايير الديموقراطية. لكن القيادة المصرية لم تكن مستعدة لذلك خوفا من انقلاب شعبي انتخابي ينتزع من النظام "شرعيته". وربما الولايات المتحدة لم تكن مستعدة لذلك ايضا خوفا من انتصار ساحق للاسلاميين (الاخوان) قد يقود مصر نحو التطرف وربما نحو الارهاب رغم محاولات الطمأنة التي قام بها قياديوهم.

كيف سيتصرف النظام المصري حيال الانتصار الكبير الذي حققه "الاخوان المسلمون" في الانتخابات النيابية الاخيرة؟

يقول عدد من الباحثين المصريين والاميركيين المتابعين لاوضاع مصر ان امام هذا النظام ثلاث وسائل للتعامل مع الاخوان بعد الانتصار المذكور. الخيار الاول هو العودة الى السياسات القديمة التي مورست على مدى عقود ضد الاخوان وضد كل معارض ايا تكن سياسته، وهي سياسات القمع بكل الوسائل. والخيار الثاني هو قبول الامر الواقع السياسي – الانتخابي – الاسلامي الجديد والتعامل مع "الاخوان المسلمين" بصفتهم حركة سياسية شعبية واسعة وادخالها آلية النظام في مصر بحيث تصبح جزءا منه ومعزز له وربما لاحقا للديموقراطية بدلا من ان تبقى كما كانت منذ عام 1952 البديل الوحيد المفترض من النظام وتاليا الخطر الدائم عليه. اما الخيار الثالث فهو تشجيع الاتجاه التوافقي والعملي (البراغماتي) الذي اظهره الاخوان في مصر في الفترة الاخيرة وخصوصا اثناء الاعداد للانتخابات وخلالها بالبحث معهم عن ارضية مشتركة توفر استقرارا للحكم وتتيح للتجربة الديموقراطية ان تتطور وان على "الطريقة المصرية".

اي خيار من الثلاثة المذكورة اعلاه سيعتمد النظام في مصر؟

لا احد يعرف حتى الآن. فقيادته لا تزال في مرحلة تقويم ما جرى واستيعابه ومحاولة تحديد المواقف منه. لكن الخيار في النهاية لا بد أن يرتبط الى حد كبير بالخيار الذي سيعتمده "الاخوان المسلمون" ولا سيما بعدما صاروا المعارضة الوحيدة والقوية في البرلمان وخارجه. فاذا برهن تنظيمهم انه كان صادقا بواقعيته وبراغماتيته قبل الانتخابات فان تفاهما تاريخيا مع السلطة قد يتبلور ويعزز مسيرة التطور الديموقراطي وغير الديموقراطي في مصر. اما اذا اظهر ان ما قام به قبل الانتخابات كان نوعا من الباطنية واذا اصر على الضغط لتحقيق مكاسب سياسية سريعة فانه بذلك قد يدفع النظام الى العودة الى سياسة التشدد القديمة تجاهه، ومعه ربما الولايات المتحدة. في اختصار تبقى الديموقراطية لمصر ولكل الدول العربية بل لكل الدول غير الديموقراطية الخيار الأسلم. واعتمادها او على الاقل السير في اتجاهها لا يمكن ان يكون على حساب مسلمات وطنية وقومية. وما جرى في اميركا الجنوبية واخرها في الانتخابات الرئاسية في بوليفيا يدل على ان الديموقراطية تسمح بمواجهة القوى الكبرى وخصوصا التي تدفعها المصالح الى عدم مراعاة حقوق الشعوب.