البيان/ صبحي غندور

يتأزم الإنسان والأمم، حين يصل الفرد أو الجماعة، في مواجهة مشكلة ما، إلى حال من العجز عن الإجابة على سؤال: ما العمل؟

وعلى الرغم من التّحديات والمخاطر الكبرى الّتي تتعرّض لها الآن الأوطان العربيّة، متفرّقة أو مجتمعة، فإن الإجابة عن سؤال: «ما العمل» ما زالت متعثّرة على المستويين الوطني الداخلي، والعربي العام المشترك، ربما المشكلة في السؤال نفسه.

وليست بالإجابة عنه. فسؤال: «ما العمل»، داخل الوطن أو الأمة، يقتضي أولاً الاتفاق على فهم مشترك للمشكلة والواقع، ومن ثم تحديد الهدف المراد الوصول إليه.

المشكلة الآن على المستويين الداخلي والعربي العام هي في غياب الرؤية المشتركة التي منها تنبثق برامج «العمل» ومراحله التنفيذيّة، أيضاً، هذا السؤال يتطلّب معرفة من هم المعنيون بتنفيذ «العمل» وبالقائمين عليه، فهل هناك إجابات واضحة عن هذه القضايا؟

لعلّ أسوأ ما في الواقع العربي الرّاهن هو حال التمزّق على المستويات كلها بما فيها القضايا التي لا يجوز الفصل بينها أصلاً. فشعار الديمقراطيّة أصبح نقيضاً لشعار التحرّر الوطني، أو بالعكس! والولاء الوطني أصبح يعني تنكّراً للعروبة وللعمل العربي المشترك! والاهتمامات الدينيّة أصبحت خطراً على الوحدة الوطنيّة!.

ويرافق هذا الحال من التمزّق في القضايا والأهداف، رؤى خاطئة عن «المثقّفين العرب» من حيث تعريفهم أو تحديد دورهم. فهذه الرؤى تفترض ان «المثقّفين العرب» هم جماعة واحدة ذات رؤية موحدة بينما هم في حقيقة الأمر جماعات متعددة برؤى فكرية وسياسية مختلفة قد تبلغ أحياناً حد التعارض والتناقض. وتوزيع دور هذه الجماعات لا يصّح على أساس جغرافي أو إقليمي، فالتنوع حاصل على معايير فكرية وسياسية.

صحيح أن «المثقّفين» هم الجهة المعنيّة بالرّد على سؤال: «ما العمل»، وما يسبقه من أسئلة تمهيدية تحقق جدارة طرحه، لكن الانطلاق من فرضيّة أنهم كتلة عربية واحدة تعيش واقعاً واحداً وتحمل فكراً مشتركاً، هي فرضية خاطئة وتزيد من مشاعر الإحباط والعجز.

أن «المثقّف» هو وصف لحالة فرديّة وليس تعبيراً عن جماعة مشتركة في الأهداف أو العمل. قد يكون «المثقّف» منتمياً لتيار فكري أو سياسي يناقض من هو مثقّف في الموقع المضاد لهذا التيّار، وكلاهما يحملان صفة «المثقّف»!

ومن الأخطاء الشائعة أيضاً، تعريف المثقّف بأنَّه «المتعلّم» أو من حملة لقب «الدكتور»، أو بأنَّه «المعارض» أو «الثائر»®®. الخ، بينما حقيقة الأمر أنَّ «المثقّف» ليس هو فقط الباحث أو الكاتب أو المتعلّم، وليس فقط الرجل دون المرأة، وليس هو دائماً في موقع الرّافض أو المعارض أو «الوطني».

فلا أحد ينكر على سبيل المثال، أنَّ الدكتور فؤاد عجمي هو مثقّف من أصل عربي مقيم في أميركا، تماماً كما كان المرحوم الدكتور إدوارد سعيد، لكن اشتراكهما في صفة «المثقّف» أو «الأصل العربي» لا يضعهما في حالة متساوية أبداً، لا من حيث الفكر أو الدور أو العمل المخلص للقضايا العربيّة.

لكن من المواصفات العامة ل«المثقّف» الملتزم بقضايا وطنه أو أمته، الجمع لديه بين هموم نفسه وهموم الناس من حوله، كما الجمع عنده بين العلم أو الكفاءة، وبين الوعي والمعرفة بمشاكل المجتمع حوله. أي هو طليعة قد تنتمي إلى أي فئة أو طبقة من المجتمع، لكن تحاول الارتقاء بالمجتمع ككل إلى وضع أفضل مما هو عليه.

وهناك عدد لا بأس به من المثقّفين في المنطقة العربيّة الّذين يرفضون الاعتراف بالانتماء إلى هويّة عربيّة، وهؤلاء تجوز تسميتهم ب«المثقّفين العرب» وإن كانوا لا يعتقدون أصلاً بالعروبة ويناهضونها فكراً وعملاً!

لذلك من الأجدى دائماً وضع تعريف فكري وسياسي برفقة صفة «المثقّف»، وليس اعتماد الحالة الجغرافية كدلالة على المشترك بين المثقّفين. وما ينطبق على «المثقفين العرب» يصّح أيضاً على المثقّفين داخل كل بلد عربي. فالحديث عن المثقّفين اللبنانيين أو المصريين لا يعني وجود توافق فكري أو سياسي بينهم يستوجب منهم عملاً مشتركاً.

إذن، إنَّ سؤال: «ما العمل» على المستوى العربي المشترك، يتطلّب للإجابة عنه وجود مثقّفين يعتقدون أولاً بمفاهيم فكريّة مشتركة حول الانتماء والهويّة.

وحول توصيف الواقع وأسباب مشاكله، ثمَّ سعيهم لوضع رؤية فكريّة مشتركة لمستقبل عربي أفضل. عن ذلك يمكن لهذه الفئة من «المثقّفين العرب» أن تضع الإجابة السليمة على سؤال: «ما العمل».

أمّا الحديث بالمطلق عن «المثقّفين العرب» والتساؤلات عن غياب دورهم، فهذا غير صحيح وغير واقعي. فهناك «مثقّفون عرب» يدافعون الآن عن واقع الحال القائم، كما هناك من يختلف معهم ويناقضهم في الفكر والعمل، فالضعف هو في فئة «المثقّفين» المعتقدين فعلاً بالهويّة العربيّة.

والرافضين فكريّاً وعمليّاً للفصل بين أهداف تحتاجها الأمّة العربيّة كلّها. الضعف هو في غياب التنسيق والعمل المشترك بين من هم فكريّاً في موقع واحد لكنّهم عمليّاً وحركيّاً في شتات بل تنافس أحياناً.

لعلّ المدخل السليم لمعالجة هذا الوهن والضعف، هو إدراك مخاطر هذا الانفصام الحاصل بين الهويّة الثقافيّة العربيّة الواحدة، وبين الانتماءات الأخرى الّتي يتم وضعها الآن في حال تناقض مع الهويّة العربية المشتركة.

ولأن الحركة السليمة هي الّتي تنبع من فكر سليم... ولأن الفكر السليم هو الّذي يستلهم نفسه من الواقع ليكون حلاً لمشاكله، فإن سؤال: «ما العمل» لبناء نهضة عربية يتطلّب النهوض أولاً بدور المفكّرين والمثقّفين العرب الّذين يعتقدون بالانتماء للعروبة الحضاريّة.

إن النهضة العربيّة المنشودة تعني بداية القناعة بوجود هويّة عربيّة حضاريّة مشتركة بين البلاد العربيّة، وبعلاقة خاصّة بين الثقافة العربية ومضمونها الحضاري الإسلامي.

إن تحقيق النهضة يتوجّب الضغط على كل المستويات الرسميّة العربيّة من أجل تحقيق التكامل العربي والسير في خطوات الاتحاد التدريجي بين الدول العربيّة.

إن الوصول للنهضة يتطلّب التشجيع على الحياة الديمقراطيّة السليمة في كل البلاد العربيّة. كما تتطلّب الديمقراطية التمييز بين أهمّية دور الدين في المجتمع والحياة العامة وبين عدم زجّه في اختيار الحكومات والحاكمين وأعمال الدولة وسلطاتها التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة.

إن النهضة العربيّة تعني انتقالاً من حال التخلف والجهل والأميّة إلى بناء مجتمع العدل وتكافؤ الفرص والتقدّم العلمي. مجتمع تشارك فيه المرأة العربيّة بشكل فعّال في مختلف أوجه الحياة السياسية والاجتماعيّة والثقافيّة.

ان الدعوة للنهضة العربيّة والوصول إليها يفرضان التمييز بين الحق المشروع في مقاومة الاحتلال على الأرض المحتلة فقط، وبين الالتزام برفض أسلوب العنف واختيار نهج الدعوة السلميّة والوسائل الديمقراطيّة لتحقيقها.

وحينما يتفق عدد من «المثقّفين العرب» على هذه القضايا فإن سؤال: ما العمل؟ يصبح مدخلاً عملياً لمشروع نهضة عربية.