السفير/حازم نهار

ثمة عاملان رئيسان يحددان معنى <<الوطن والوطنية>> في الثقافة السائدة على اختلاف تياراتها ومشاربها، القومية والماركسية والإسلامية، في سوريا والمنطقة العربية. هذان العاملان هما <<الخارج>> والسلطة القائمة، وكلاهما يحددان فهما سلبيا يصبّ في خدمة استمرار <<القابلية للاستعمار>> والحفاظ على مقوّمات الاستبداد، فهذا الفهم غير قادر لا على درء الاحتلال وخطر الخارج، ولا على فتح الطريق أمام التغيير الديموقراطي وتفكيك المنظومات الفكرية والسياسية التي يعتاش عليها الاستبداد.

العامل الأول، أي <<الخارج>>، يستدعي تلقائياً مفاهيم ومقولات أخرى عديدة ترتبط أيضا بالفهم السائد للوطن والوطنية، كالجغرافيا الوطنية ومقاومة الخطر الخارجي والحفاظ على الخصوصية والأيديولوجية. يشار الى الوطن عادة ب<<الحمى>>، بما يعني أن الوطن محض جغرافياً، أو هو الجغرافيا الحاوية على الماء والكلأ والنار وحسب، ويتأسس على ذلك تقسيم العالم إلى <<فسطاطين>>: أهل الحمى والغزاة، وبالتالي تحديد سلبي للوطنية، لتصبح معادلة تماماً للموقف العدائي من الآخر، أي الغازي أو المستعمر، الذي يحاول انتهاك الحمى. هذا يفسر لنا إلى حدّ ما ذلك الشعور بالنقص الذي ينتاب أغلب السياسيين في منطقتنا إزاء <<المقاومة المسلحة>>، على اعتبار أن هذه الأخيرة هي أعلى مرتبة من مراتب <<الوطنية>>، بل ويشعرون بتفاهة أعمالهم ونشاطاتهم السياسية والثقافية إزاء قطرات الدم التي تضحّي بها ذوداً عن الأرض والحمى والجغرافيا.
هذا الفهم السلبي للوطنية المؤسس على الموقف العدائي من الآخر أو الخارج، ما زال حاضرا بقوة، الأمر الذي منعنا من بناء الهوية الوطنية انطلاقاً من الذات وحاجاتها وأهدافها بالدرجة الأولى، وهذا يفسر لماذا تطابق مفهوم <<الوطنية>> مع حركة التحرر وطرد المحتل خلال فترة مقارعة الاستعمار الغربي، لتصبح <<الوطنية>> معادلة تماماً لتحقيق الاستقلال.

الخطر الخارجي يستدعي أيضا المحافظة على خصوصيتنا وثقافتنا والأيديولوجيات التي نتستّر بها. وليس غريباً إذاً ألا يتخيّل أحد <<الوطن>> و<<الوطنية>> مفصولين عن الأيديولوجية، فكل إيديولوجيا ترسم صورة ما للوطن والوطنية، وتنظر لمن لا يشتركون معها بأنهم ضد الوطن ولا يتوافرون على شيء من الوطنية.
كل مَن هو غير مسلم مشكوك في وطنيته في فكر التيارات الإسلامية، وهنا أيضا يجري تقسيم العالم إلى <<فسطاطين>>، فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، يتطابق الأول مع <<الوطنية>> والثاني مع <<العمالة أو الخيانة>>.

العامل الثاني المحدد هو النظم الحاكمة التي تفصّل <<الوطنية>> و<<المصلحة الوطنية>> على مقاسها، وأحياناً على مقاس بعض الأفراد. السيادة الوطنية في قاموس أنظمة الاستبداد تعني قانون الطوارئ والأحكام العرفية، واجتثاث المعارضين، وقطع الطريق على الحريات، واحتكار السلطة، وإلحاق الإعلام ومؤسسات الدولة بها، وتخويف البشر وامتهان كرامتهم، رغم أن هذا الفهم لم يحافظ كما تشير التجربة على <<الوطن والوطنية>>.

من هنا تصبح كل حركة معارضة خارج السرب الوطني، أو يجري اتهامها بالعمالة للخارج والخيانة الوطنية. <<العميل>> في عرف هذه النظم، كما هو معروف، هو كل من يحاول الخروج على النسق الشمولي وشرعة الاستبداد. هذه الاتهامات معروفة ومألوفة في تاريخنا، إذ كانت السلطات القائمة تتهم معارضيها على الدوام، بهدف حرقهم اجتماعياً وسياسياً، بإحدى التهم الثلاث، فإما يتّهمون بالعمالة للخارج، أو بالإلحاد، أو يتّهمون في أخلاقهم الاجتماعية، وذلك لأنها تدرك أن هذه التهم قادرة على استنفار الغرائز البدوية والدينية للبشر ضدهم.

هذه الاتهامات، تجعل المعارضة تسير في طريق ردّ التهم عنها وإثبات وطنيتها بشتى السبل، سواء من حيث خطاب كيل الشتائم للخارج، والتأكيد الدائم لرفضها له جملة وتفصيلاً، سياسة وثقافة، شخوصاً ودولاً ومنظمات غير حكومية، أو من حيث الصمت عن نقد الأنظمة في اللحظات التي يشتد فيها ضغط الخارج عليها.

بدلاً من التركيز على قضية الديموقراطية وحقوق الإنسان، تنهك المعارضة نفسها وتستنزف طاقتها في إثبات وطنيتها في بلد يفتقد لأية معايير قانونية تحدد معنى <<الوطنية>> ومعنى <<الخيانة الوطنية>>، وأمام سلطات شهادتها مجروحة في هذا الأمر، وتحتاج إلى آلاف الشهادات لإثبات وطنيتها. تحتاج السلطات إلى شهادة في الحفاظ على المال العام وعدم تورطها في الفساد وإلى شهادة في حسن إدارة موارد البلد وشهادة في احترام القانون الوطني، أي الدستور، وشهادة في عدم استغلال المناصب الحكومية وشهادة في الحفاظ على حياة كريمة للمواطنين وأخرى في صون حرياتهم وشهادة في رسم سياسات ناجحة تخدم الحفاظ على المناعة الوطنية وشهادة في عدم تحوّلها إلى قنوات سهلة للمصالح الخارجية أو في عدم انتهاج سياسات خارجية تسهل للطامعين مشاريعهم، وغيرها من الشهادات.

الاستبداد يخرب التيارات السياسية والاجتماعية في المجتمع، ويشوّه انتماءها الوطني، ويقدّم فهماً سكونياً ثابتاً لمفهومي <<الوطن والوطنية>>، على عكس النظام الديموقراطي الذي يسمح في كل لحظة بإعادة اكتشاف <<الهوية الوطنية>>، باعتبارها هوية متجددة، وكائناً حياً ينمو ويتطور ويتفاعل مع الجديد والمتغيّرات.

لا توجد ملامح للوطن دون الديموقراطية. لا وطن بلا مواطن، ولا تحرير أو استقلال بدون حرية المواطن. أليست التضحية بحقوق الإنسان على قربان <<الوطن في خطر>> و<<الوطنية>> المفصلة على مقاس أنظمة الاستبداد، هي التي قادت إلى هذه الحالة من <<الهشاشة الوطنية>> وتلك التشوّهات في الانتماء الوطني؟ المفهوم الجديد للسيادة الوطنية يتحدّد بمدى احترام حقوق الإنسان، فهي الأساس ليشعر المجتمع برمّته بأن الدولة دولته، وأن الوطن وطنه. يسأل البعض سؤالاً ساذجاً هو: في حال تعارض <<الوطنية>> مع حقوق الإنسان، فلمن تكون الأولوية؟ هذا السؤال ينطلق نظرياً على الأقل من وجود تعارض مبدئي بين <<الوطنية>> وحقوق الإنسان. السؤال الصحيح باعتقادنا هو: هل يمكن أن يكون هناك وطن، أو هل يمكن فهم <<الوطنية>> خارج إطار احترام حقوق الإنسان؟ وماذا يعني الوطن دون وجود دستور ديموقراطي وقوانين لحماية الحريات؟ الوطن أولاً هو الدستور وليس مجرد أرض نعيش عليها ونحبها.

مرجع <<الوطنية>> هو الدولة الوطنية، وطالما لا يوجد دولة وطنية لا يمكن القول بإمكانية وضع محدّدات أو توصيفات حقيقية للوطنية، أما الدولة الوطنية فهي دولة الكل الاجتماعي، ودولة الدستور الديموقراطي ودولة القانون واستقلال القضاء، وهي الدولة التي يمكن من خلالها فقط وضع معايير وتعبيرات قانونية واضحة لتوصيف <<العمالة والخيانة الوطنية>>.