الحياة / عزمي بشارة

لا يمكن اعتبار «وضع اطفال العالم للعام 2005» وهو تقرير سنوي لـ «يوينسيف» صدر في هذا العام تحت عنوان «طفولة مهددة» بطاقة معايدة بمناسبة رأس السنة. لكنه يكتسب أهمية وراهنية خاصة في هذه الأيام بالنسبة الى كاتب هذه السطور لأنه يعتبر العيد بالمجمل، أي عيد أكان دينياً أم مدنياً، شأناً للأطفال، أو هو في حال الكبار ظاهرة إصرار البالغين على الطفولة. لا أكثر. وما دام العيد فرح طفولة فإن تقرير «يونسيف» ينسف أساس الغطرسة العالمية في عيد رأس السنة إذ يذكرنا بأطفال بلا أعياد.

الطفولة حال براءة انسانية لا تتكرر، مرحلة من البراءة من الشر تمر ولا تعود. لذلك ربما يحق لها ما لا يحق لغيرها. لكنها على عكس ذلك تحصل على اقل مما يحق لمراحل غيرها. إذ يبقى الانسان غير قادر على القيام بنشاط يسد حاجاته الأساسية حتى جيل متأخر نسبة الى الحيوانات. فهي جسدياً حال عجز، وعدم قدرة. ولذلك فهي أكثر تأثراً من غيرها بآفات النظام الاجتماعي وبالحروب والامراض وغيره. لأنها معتمدة على الآخرين ولا تعوض بنشاطها الذاتي على انعدام العدالة. ورغم أن الاطفال هم الاقل ذنباً في الحروب، والأصح أن يقال انه لا ذنب لهم في الحروب وفي الاوبئة وفي آفات السياسات الاجتماعية والفقر والإفقار إلا أنهم الأكثر تأثرا بها ومعاناة منها.

يضاف الى تأثرنا بألم الأطفال وبكائهم نتيجة لبراءة من يتألم، أي يضاف الى شعورنا أنه لا يستحق أن يتألم، ذلك الشعور المحبط والمخيف بعجز هذا المخلوق الصغير البريء الذي يعاني. مما يضاعف من تضامننا مع معاناة الطفل. ففي كل دمعة طفل يلمع نداء استغاثة. ليس لدي شك في ذلك.

تثبت المعاناة الإنسانية عجز البشر عموماً، وضعفهم ووهنهم أمام الألم النفسي والجسدي. ولأن الطفولة حالة براءة وعجز فإنها إنسانية خالصة. وهي ليست معاناة اختيارية، ولا هي نابعة عن استعداد لدفع ثمن موقف سياسي او أخلاقي أو قمن نضال وطني أو غيره. فالطفولة لم تسأل ولم يأخذ رأيها، لا في الاستعمار ولا في النضال ضده، لا في الاخلاق ولا في التضحية من أجلها. وكما ان معاناة الاطفال ليست مترتبة على خيار طوعي، كذلك فإنها ليست نتيجة عقوبة على ذنب اقترفه طفل. فالطفولة لا تذنب ولا تعاقب. معاناة الطفولة محايدة إذا. ولأنها محايدة ليس بوسع الإنسان أن يكون يكون محايداً تجاهها. لا يستحق الإنسان ان يعتبر إنساناً اذا كان لا مبالياً تجاه معاناة الأطفال.

لم ولن يتخلص مجتمع من معاناة الأطفال غير المبررة، بسبب تجاوزات في عنف الأهل أو المدرسة او المجتمع، أو بسبب تعرض الطفل الى عنف المجتمع وقيمه الاستهلاكية في الإعلام وغيره، أو بسبب الانحرافات السادية على أنواعها. لكن هناك فرقاً بين العنف الاستثنائي والمعاناة المدانة التي يعاقب القانون مسببيها وبين أنظمة اجتماعية سياسية ونظام دولي من عدم العدل ومن الإفقار تنتج اطفالا ايتاماً أو مهجورين، متروكين بلا مأوى وبلا أمن وبلا اسم ولا تاريخ ميلاد احياناً، يباتون سوية ويتجولون مثل عصابات شوارع في مدن البرازيل والمكسيك والأرجنتين يتعرضون إلى عنف المشغلين من المجرمين والى عنف الشرطة وفرقها التي تلاحقهم وتطلق النار عليهم كالكلاب وكنشالين او كمشردين يعانون من عنف ونبذ المجتمع لهم، أو كأيدٍ عاملة صغيرة في الهند وباكستان وجمهوريات آسيا الوسطى تصلح لنسج السجاد بحياكة ناعمة وقطب صغيرة من خيوط الحرير، أو يخطفون لغرض تصوير أفلام للبيدوفيليين المنحرفين جنسياً.

تقاس حضارة المجتمع، ودرجة تطوره بكيفية تعامله مع الأطفال، أي إذا كان يعوض عن عجزهم غير المغطى عائلياً نتيجة لفقر او جهل او عجز من قبل العائلة بعناية مجتمعية، وإذا كان يرفض ان تقذفهم قوانين السوق خارجه على شكل مشردين او فقراء او جياع. فالمجتمع الحضاري إذا كان رأسمالياً أو اشتراكياً هو مجتمع يرفض اخضاع الطفولة البريئة والعاجزة الى فعل قوانين السوق الحصري والربح والخسارة.

في مناطق ظلال عالمنا المعتمة يعيش ملايين الاطفال الذين لا يأبه الكثيرون لمصيرهم.

ولا ادري اذا كنا سوف نختلف على تعريف الطفولة علمياً وعلى رسم حدودها ونسبية هذه الحدود تبعا للمكان والزمان والتاريخ، خاصة ازء التفاوت في الظرف وإزاء أطفال يكبرون لشدة وكثافة المعاناة الجسدية او يهرمون نفسياً من دون نضج ومن دون المرور بمرحلة الشباب، أو يتعبون مما رأوا من دون أن ينمو جسدهم الغض.

وعلى رغم الاختلاف على تعريف حدود الطفولة علميا يحق للطفولة وحدودها في الجيل ان تكون قيمياً، أن تكون أخلاقيا عالمية، او أن تعولم حدودها ما دامت قد تمت عولمة الشر والاستغلال و»الاستهلاك حتى الهلاك» فلماذا لا يعولم تعريف الطفولة؟ لماذا لا تعولم حدودها في السن والجيل؟ ولماذا لا يعولم اعتبار تجاوز هذه الحدود جريمة بحق الانسانية؟ عوملة حدود الطفولة يجب ان تنجب حراس حدودها عالميا، وهؤلاء أهم بكثير من قوات التدخل السريع ومن شن الحروب لأسباب امبراطورية. حراس حدود الطفولة هم اولئك الذي يحمونها من العنف ومن اليتم ومن التجارة ومن الأوبئة التي تشكل عدواناً اجتماعياً حقيقياً على الأطفال، فالأوبئة التي تحصدهم ليست ولم تعد ظاهرة طبيعية منذ ان توفر المصل الواقي منها أصبح عدم توفيره للأطفال عدواناص اجتماعياً عليهم.

ويبدو ان «يونسيف» بتفكير أو من دون تفكير قد قررت حداً أو سناً يعتبر الانسان ما دونه طفلاً. ولذلك تمكنت أن تحصي عدد الاطفال في العالم بما يربو على 2.2 بليون طفل، يعيش 1.9 بليون منهم في الدول النامية. ويبدو ان المنظمة اعتبرت الفقر أيضا مسألة عالمية فقررت أن بليون طفل يعيش في حالة من الفقر، أي أن كل طفل ثاني في العالم هو طفل فقير.

ولنتخيل كمية المعاناة الانسانية العاجزة في الرقم الذي رمته المنظمة في وجوهنا في تقريرها الأخير، إذ يعيش 640 مليون طفل في الدول النامية من دون مأوى، أي أن طفلاً واحداً من بين كل ثلاثة أطفال يعيش مشرداً من دون سقف فوق رأسه، وبالتالي من دون أهل ومن دون أي نوع من الأمان، ولنتخيل ماذا يتعرض له هذا الكم من الأطفال نفسياً وجسدياً بسبب هذه الحقيقة، أي الحرمان من المأوى. ولا تتوفر مياه صحية لـ400 مليون طفل، أي لا تتوفر مياه صالحة للشرب لطفل من بين كل خمسة أطفال في العالم، ولا تتوفر خدمات صحية لائقة لـ270 مليون طفل، أي لطفل واحد من بين سبعة أطفال.

وقد بلغ عدد الاطفال الذين توفوا في العام الذي سبق صدور التقرير دون بلوغ سن الخامسة 10.6 مليون؛ وهو عدد يساوي العدد الكلي للاطفال في فرنسا واليونان وايطاليا. وكان بإمكان الطب او المجتمع او تحسين الظرف الغذائي ان يمنع وقوع معظم «حالات» الوفاة هذه. عدد الأطفال الذي يتوفون يوميا دون بلوغ سن الخامسة هو 29158، منها 3900 حالة وفاة تتسبب يومياً بسبب عدم توفر المياه؛ أي 1.4 مليون طفل يتوفون سنوياً لهذا السبب وحده. ومن الواضح ان هذا موت ممكن منعه لو توفرت المياه التي تتحول في مواسم معنية الى فيضان وطوفان في نفس الدول التي يموت فيها الأطفال نتيجة لشحة المياه. أي انه لو توفرت البنى التحتية اللازمة لدى بعض الدول لأمكن منع موت ملايين الاطفال قبل بلوغهم سن الخامسة.

ومن بين العشرة ملايين طفل الذين لا تسنح لهم فرصة النمو والحياة الى ما بعد سن الخامسة 2.2 مليون طفل يموتون سنويا في حالة معاناة من مرض كان يمكن انقاذهم منه عبر التطعيم بمصل من الامصال المتوفرة وغير الثمينة وذلك بكلفة طائرة اف 15 واحدة او بكلفة غيرها من أدوات الدمار في هذا العالم. ولا ادري كم خطاب وكم مؤتمر وكم ندوة تسخف وتقزم هذه الحقيقة المليونية التعسة. 32% من الأطفال الذين يولدون في اليمن يولدون من دون الوزن الطبيعي؛ وفي السودان 31%، وفي الهند 30%، أما في السويد فالنسبة هي 4%. ونسبة الاطفال دون الوزن الطبيعي بسبب سوء التغذية في جنوب اسيا 46%، أي نصف الأطفال تقريبا، وفي الصحراء الافريقية 29%، في الشرق الاوسط وشمال افريقيا 14%، وفي اميركا اللاتينية 7%. يجري هذا في عالم يعاني نصفه الشمالي من مصيبة معاكسة وهي زيادة السمنة وزيادة إحتمالات المرض الناجمة عنها لدى اطفال بنفس الجيل وبنفس العجز والبراءة.

عدد الاطفال المتوفون قبل بلوغ الخامسة في اليابان 5000 طفل. يولد الطفل في اليابان ومدى حياته المتوقع له (سنة 2003) هو 82 عام. في حين أن عدد الاطفال المتوفون قبل بلوغ الخامسة في زامبيا هو 82000 طفل. حيث يولد الطفل ومدى الحياة المتوقع له (بموجب ارقام سنة 2003) هو 33 عام.إذا كان هنالك قدر فهذا قدر بالنسبة للطفل لم يختره، لكني اشك إذا كانت هذه أقدار المجتمعات المذكورة أن يكون معدل الأعمار في بعضها اقل من نصف بعضها الآخر. هذه حقيقة اجتماعية اقتصادية يمكن تغييرها وعلى كل حال فإن الأطفال يولدون إليها.

هنالك 15 مليون طفل يتيم بسبب وفاة الأهل من الإيدز في عالمنا حالياً، ولا ندري كم منهم يحمل المرض. وهو على كل حال عدد مرشح للتزايد اذا ما أخذنا في الاعتبار انه في بوتسوانا وحدها أكثر من ثلثي، بل ما يقارب الـ40% من البالغين، بين سن 15- 49 يحملون فيروس الايدز. 15 مليون طفل يتيم، هو عدد يساوي العدد الكلي للاطفال البالغ 15.2 مليون في المانيا؛ ويربو على مجمل عدد الاطفال في المملكة المتحدة 13.2 مليون.

خلال الثلاثين سنة الاخيرة ازداد العمر المتوقع للانسان في العالم بسبع سنوات: من 56 الى 63. اما في الشرق الاوسط وشمال افريقيا فازداد العمر المتوقع للانسان 16 عاماً منذ 1970. ومقابل ذلك فإن عدد الدول التى نقص فيها متوقع حياة الانسان منذ 1970 في افريقيا 18 دولة.

يفترض ان تشغل هذه الحقائق العالم المتحضر، والانسانية جمعاء، أكثر مما يشغله وتشغلها اخبر «الحرب على الإرهاب»، وأن تحتل من اهتمامه حيزاً اكبر من أخبار نجوم الفن والسينما وكرة القدمن ولكن سنجد من يستغرب حتى كتابة مقال واحد عشية رأس السنة والاضحى يذكر بمن لا عيد لهم في هذه المرحلة، ويذكر أن معاناة الاطفال من الجوع والمرض مقابل هلاك آخرين الجسدي والنفسي نتيجة للافراط في الاستهلاك والبطر في عالم الوفرة ليس قدراً مقدوراً بل نتيجة لسياسات دول منفردة وسياسات ونظام دولي يفوق ارهابه ضد الأطفال أي ارهاب.