الشرق الأوسط / سمير عطا الله

عندنا لوحتان من «العصر الهولندي»، البلاد الواطئة، الواقعة تحت مستوى سطح البحر. والأرجح ان لا قيمة لهما، سوى قيمة الاطارين الخشبيين اللذين يحرسانهما. او لعلهما يجمَّلانهما. آه، ما اعقد المثنى. كم كانت الكتابات اسهل لو قلت «عندنا ثلاث لوحات». وبعدها، اكمل يا صبي، على رسلك. ولست في اي حال، جامعاً للوحات، برغم محبتي لها، وكم كنت اتمنى ان اكون. لكنني لست. للأسف.

وقد حاولت ان اقنع بعض الفنانين الكبار من اصدقائي، ان يقسطوا لي بعض لوحاتهم على دفعات، دون مسايرة في السعر. ولم انجح. فقد كانت حاجتهم الى الدفع الفوري والكامل، اكبر من حاجتي الى ترف التمتع بأعمال حسين ماضي او حسن الجوني او ايلي كنعان. والثلاثة من اجيال مختلفة ومدارس مختلفة وإبداع اشراقي واحد. وأنا اعرف انني سوف أثير عداء واحد منهم على الاقل. فالرسامون كالشعراء، يكرهون المقارنة بالأحياء. وقد يقبلون بها فقط اذا ما هو وعد بذهاب قريب. وثمة تعبير في الألمانية يحمل معنى الحزن على الأصدقاء والفرح لغيابهم، في كلمة واحدة: شادن فرويدن! او شيء من هذا القبيل. او من ذاك، لا فرق. فالمعنى واضح. ولا ضرورة للتدقيق. ثم ان خبراء الألمانية قلة، واشهرهم عندي الشاعر فؤاد رفقة، الذي منذ وعيت وهو يترجم اشعار ريلكة. او يحاول. وليته صرف كل هذا الوقت على ما هو اجمل وأعمق وأرق عند ريلكه: رسائله. وبعض اجملها عن مصر والنيل. وبرغم عشق الدكتور عبد الرحمن بدوي للتعقيد واللا تبسيط والجمل الاطول من ست فقرات، فقد اختار ان يترجم من ريلكه ابسطه واحبه. ربما كحدس هائل عنده بأن الشاعر فؤاد رفقة سيتولى القسم الآخر طوال النصف الثاني من القرن العشرين وما يتيسر من هذا القرن.

ذهبت أخيرا الى حضور معرض «للكبار الهولنديين» في باريس، برفقة زوجتي، وبطلب منها. وقد طلبتُ بصفتي محرماً لا ذواقة ولا ناقداً. وراحت تتأمل اللوحات وتتألم، فيما رحت اتأمل الألوان وأتساءل: ما هو سرها؟ ما هو نمطها؟ هل هو هذه المداخن والقصور والقلاع؟ هل هو الفلاحات والتنانير المضاعفة الطبقات وقطعان البقر السعيدة من حولهن؟

وجدتها. يوريكا، صرخ الفيلسوف اليوناني الذي ارتدى طوال حياته كيساً من الجنفيص ليبحث عن الحقيقة. ألم يكن العثور عليها اسهل يا عزيزي ارخميدس بثوب من عند «لانفان» وكرافتة شغل «ستيفانو ريتشي»؟ ضروري كيس الخيش هذا؟ في اي حال، ما وجدت شخصيا وأنا في معرض «الهولنديين الكبار» أن المسألة مسألة طقس. بقوا في هولندا ومطرها وبهدلتها فرسموا ألوانا قاتمة داكنة وظلالا كالظلام ونوافذ مغلقة وجنائن جرداء. وذهب مواطنهم فان غوغ الى البروفانس، فرسم الزهر الفاتح والشجر الملون والسهول البنفسجية والشمس الصارخة والحدائق الغلَّب. وعندما قارن بين لوحات هولندا وألوان البروفانس، امسك سكين الرسم وقطع اذنه، فقد خاف ان يعاد مرة اخرى الى وايتغاستشتافن هلموشتن فون سور برايكن، او شيء من هذا النوع.