صبحي غندور/الرأي العام

تميّزت أحداث المنطقة العربيّة في العام 2005 بثنائيّات متناقضة في أكثر من مكان وعلى أكثر من صعيد, فلقد شهد العراق في مطلع العام 2005 انتخابات عامّة لم يشهد مثلها طوال نصف قرن تقريباً، ثمّ ذهب العراقيّون مرّة أخرى لصناديق الاقتراع للاستفتاء على الدّستور في شهر أغسطس الماضي، تمهيداً لانتخابات عامة أخرى في ديسمبر, لكن ذلك كله يحدث في العراق الخاضع للاحتلال، الممزّق سياسيّاً واجتماعيّاً، والمهدّد كل يوم بتفجيرات وعمليّات عسكريّة تحصد عشرات الضحايا من شعبه.

أمّا لبنان، فقد عاش في العام 2005 أخطر الاحتمالات السياسيّة والأمنيّة على مستقبله منذ انتهاء الحرب الأهليّة قبل 15 عاما، بعدما أُغتيل رئيس الوزراء السّابق رفيق الحريري, لكن العام 2005 كان بالنسبة للبنان مزيجاً من التطورات الّتي تخضع لثنائيّة متناقضة من السلبيّات والايجابيّات, فبعض لبنان اعتبر العام 2005 عام الحرّية والاستقلال بسبب الانسحاب العسكري السّوري الشامل من أراضيه، والبعض الّلبناني الآخر وجد في هذا التطور بداية لعهد الوصاية الدوليّة على لبنان.

بعض لبنان يعبئ الآن ضدّ «الخصم» في الشّرق السوري اعتماداً على «الصّديق» الغربي، والبعض الّلبناني الآخر ما زال هاجسه العدو الاسرائيلي في الجنوب ويتجنّب الخصومة مع الشّرق والصّداقة مع الغرب!

أمّا في فلسطين المحتلّة، فانَّ الانسحاب الاسرائيلي من غزّة أراده الطرف الفلسطيني المفاوض أن يكون انتصاراً لمن يحمل غصن الزيتون، بينما أراده الطرف الفلسطيني المقاوم تعبيراً عن حقّ الفلسطينيين بالتمسّك في حمل البندقيّة وأسلوب المقاومة, وهو صراع بين ثنائيّة يعيشها الشارع الفلسطيني المحتل منذ توقيع قيادة منظّمة التحرير لاتفاقيّات أوسلو وقرارها بالتخلّي عن اليد الّتي تحمل البندقيّة لصالح اليد الّتي تحمل غصن الزيتون.

أيضاً، كان العام 2005 عام الثنائيّة المتناقضة بين شعاريْ الحرّية للأوطان والحريّة للمواطنين, فالرّئيس الأميركي بوش افتتح الموسم السياسي الأميركي في مطلع العام 2005 بخطاب ركّز فيه على شعار الحريّة ومبرّراً فيه حروب ادارته كلها بأنّها من أجل الحريّة في الشّرق الأوسط والعالم، ثمّ هو كرّر بعد هذا الخطاب وفي أكثر من مناسبة، الاشارة الى ما حدث في العراق ولبنان وفلسطين من انتخابات وممارسة ديموقراطيّة.

لكن الغريب في الأمر، أنَّ الرّئيس الأميركي وأركان ادارته ينظرون الى مسألة الحريّة، وكأنّها قضيّة داخليّة فقط بين الحكومات والشعوب، ويتعمّدون تجاهل المنطلق الأساسي للحريّة وهو حريّة الأوطان الّتي يمكن أن يمارس فيها المواطنون حرّياتهم العامّة.

انَّ الادارة الأميركية معنيّة من دون شك في ادارة أبرز الأزمات القائمة الآن في المنطقة العربيّة، وقد خوّلت نفسها دون تفويض دولي، أو قرار محلّي أحياناً، برعاية هذه الأزمات وتوجيه مساراتها, لذلك، كانت الثنائيّات المتناقضة في العام 2005 هي محصلة طبيعيّة للتناقض الحاصل في السياسة الأميركية تجاه مسألة الحريّة.

وتظهر ازدواجيّة المعايير وتناقضها في السياسة الأميركية حينما تجمع ادارة بوش في ملاحظاتها الايجابيّة عن الديموقراطيّة في الشّرق الأوسط بين العراق ولبنان وفلسطين, فالمعيار الأميركي للحريّة في العراق وفلسطين هو العمليّة الانتخابيّة، بينما كان المعيار للحريّة في لبنان هو حركة الشارع اللّبناني ضدّ الوجود العسكري السّوري في لبنان، اذ اعتبرت واشنطن أنَّه لا يمكن أن تقوم ديموقراطيّة سليمة في لبنان في ظلّ الوجود العسكري السّوري والنفوذ الأمني السّوري على أراضيه, والسؤال ألا تصحّ هذه المقولة أيضاً على العراق والأراضي الفلسطينيّة المحتلّة؟

مارست هذه الادارة شعار الحريّة للأفغان من خلال احتلال أفغانستان، وشعار الحريّة للعراقيين من خلال احتلال العراق, وشعار الحريّة للفلسطينيين من خلال تكريس الاحتلال الاسرائيلي والتراجع عن الوعود والخطط الأميركية الّتي كان من المقرّر تنفيذها في العام 2005 بما في ذلك وعد الرّئيس الأميركي عن اعلان دولة فلسطينيّة.

ولا أعلم كيف يمكن تطبيق شعار الحريّة الّذي ترفعه ادارة بوش على سياستها تجاه الحكم اللّيبي، اذ كان المعيار هو صفقة سياسيّة وماليّة مع الحكم وليس حقوق وحريّات المواطنين اللّيبيين.

أيضاً، من الثنائيّات المتناقضة في سلوك الادارة الأميركية وازدواجيّة المعايير لديها، هو حرص أركان الادارة على رفض التعليق وعدم استباق نتائج التّحقيق الّذي يقوم به المدّعي العام الأميركي بشأن فضيحة تسريب المعلومات بشأن علاقة زوجة السفير الأميركي السابق جوزيف ولسون مع جهاز المخابرات الأميركية، بينما استبقت الادارة الأميركية نتائج التّحقيق الدولي بشأن اغتيال رفيق الحريري وقرّرت معاقبة سورية واحالتها الى مجلس الأمن,

في العودة الى الثنائيّات المتناقضة في المنطقة العربيّة، نجد قطاعاً من العرب يتفهم ظروف الأراضي الفلسطينيّة المحتلة ولا يرى مانعاً في حصول انتخابات تشريعيّة ومحليّة في ظلّ قوات الاحتلال، كما لا يرى مشكلة في التعامل مع سلطة فلسطينيّة تمارس أعمالها كلها باشراف المحتل الاسرائيلي، ويدعم نهج هذه السلطة المطالب الآن بوقف العمليّات العسكريّة كلها واتاحة الفرصة للحلول السياسيّة (غير الناشطة أصلاً) من أجل بناء دولة فلسطينيّة في المستقبل الذي غدا بعيداً الآن بعدما تراجع الرّئيس الأميركي عن موعد اعلان الدولة.

في المقابل، نجد هذا القطاع نفسه من العرب يرفض الاعتراف بأي انتخابات تحصل الآن في العراق أو التعامل مع أي حكومة تنبثق عنها، لأنَّ هذه الأمور تتم في ظلّ الاحتلال الأميركي!

طبعاً، هذا الطّرف يرفض أيضاً أي وقف لعمليات المقاومة العسكريّة في العراق، وهو يطالب بتحرير العراق، لكن ليس من خلال اعادة بناء جيش عراقي جديد يحفظ وحدة العراق وأمنه بعد انسحاب القوات الأجنبيّة منه، بل بعمليّات عسكريّة حتّى ضدّ مراكز الشرطة العراقيّة!

أيضاً، تظهر الثنائيّات العربيّة المتناقضة في الحرص على عدم ذهاب عناصر «الجهاد والتطوّع للموت» الى الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة وما فيها من مقدّسات دينيّة محتلّة، بينما هي تطلب «الشهادة» الآن في بغداد وعواصم عربيّة مختلفة!

ربما هي أيضاً أزمة ثنائيّة التناقض في الفكر قبل أن تكون في السلوك, أزمة فهم الدين ومعاني الجهاد الحقيقيّة.

كان العام 2005 عاماً رمزيّاً لتناقضات كثيرة تحدث في البلاد العربيّة، المحرّرة منها أو المحتلّة أو الموضوعة على لائحة الفوضى والاحتلال! لكن ما هو متراكم من أعوام سابقة ما زال أيضاً يفعل فعله في تأجيج شعلة التناقضات داخل المجتمعات العربيّة, فقليل من البلاد العربيّة الّذي يحمل مشروعاً وطنيّاً للمستقبل يضمّ في طيّاته قطاعات الشعب ومؤسساته الرسميّة والمدنيّة، مما يجعل غالبيّة البلاد العربيّة تعيش حالاً من التناقض بين رؤى فكريّة وجماعات سياسيّة متضاربة أحياناً الى حدّ العنف.

وسيحمل العام 2006 نتائج العام السابق وتداعياته، وستكون افرازات وتطوّرات العام 2006 أكثر خطورة ما لم يدرك العرب ضرورة استبدال التناقضات بصيغ وفاق وطني داخلي وبأطر أفضل للعمل العربي المشترك، وعلى أمل أن يقوم المفكّرون العرب باعداد رؤية عربيّة جديدة تستقطب حولها كل من يريد تحقيق الحريّة لكل الأوطان ولكل المواطنين في البلاد العربيّة.