نصر شمالي

قبل وصول جورج بوش الابن إلى مركز الرئاسة بسنوات عديدة كانت الاستعدادات الأميركية قائمة على قدم وساق من أجل صياغة استراتيجية تغيير جذرية تشمل الولايات المتحدة والعالم، وتستهدف على وجه الخصوص المنطقة العربية والإسلامية، باعتبارها "المنطقة المفتاح" للعالم حسبما تصفها المفردات السياسية الأميركية.

لم يكن مشروع التغيير الجذري الانقلابي الأميركي، الذي وضع في عام 1996، موجهاً ضدّ خصوم الولايات المتحدة فحسب، بل شمل أصدقاءها وأتباعها أيضاً، في الشمال والجنوب! لقد شمل جميع أولئك اللذين صارت أوضاعهم تتعارض مع ترتيباتها المزمعة، وجميع أولئك الذين لم يعودوا صالحين لخدمة احتكاراتها، فاستراتيجية التغيير الجذري (المعمول بها اليوم) تقوم على فكرة احتفاظ الولايات المتحدة عنوة وقسراً بمكانتها الدولية، واحتفاظها عنوة وقسراً بمستوى وطراز حياتها الباذخة المتلافة، وذلك بإحكام السيطرة أكثر فأكثر على الموارد والأسواق الدولية! لقد تقرّر تحقيق ذلك على حساب الحرية النسبية والاستقلال النسبي والسيادة النسبية للحلفاء والأتباع، لأن العالم المكتظ بحوالي سبعة مليارات نسمة، والذي بدأت موارده الاستراتيجية بالانحدار نحو النضوب، لم يعد يسمح للأميركيين بالاستئثار والاحتكار عن طريق المفاوضات السلمية والاتفاقات الرسمية، فصار عليهم إرغامه على الانصياع، وهذا عين ما يفعلونه اليوم!

لقد أقدمت الولايات المتحدة، خلافاً لإرادة جميع الأمم تقريباً، على احتلال العراق بعد أفغانستان، لوضع يدها على أضخم احتياطي نفطي عالمي (حوالي ثلاثمائة مليار برميل) غير أن الخطة الاحتلالية الاحتوائية لم تقتصر على العراق، بل استهدفت جميع البلدان في منطقة الخليج وحولها بنسب متفاوتة، وهي شملت أيضاً الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، حيث توجب على الإسرائيليين (منذ عام 1996) إعادة النظر في سياساتهم، وإحداث تغيير في أوضاعهم، بما يتفق مع الاستراتيجية الأميركية الجديدة ويخدمها، وقد وجهت الوثائق الأميركية التحضيرية، منذ ذلك العام، نقداً شديداً للأوضاع الإسرائيلية السياسية والاقتصادية التي أرساها حزب العمل، وطالبت الحكومات الإسرائيلية التالية بتصفية القطاع العام من جهة، وبتصفية الشعب الفلسطيني من جهة أخرى، حيث يتوجب عليها التخلي نهائياً عن سياسة الأرض مقابل السلام، والتحول إلى سياسة السلام مقابل السلام، أي سياسة فرض الانصياع التام الذي يتحقق بأسلوب "المطاردة الحامية" للفلسطينيين في جميع المناطق، أسلوب التدمير الشامل للمدن والأرياف، والقتل الشامل للأفراد والجماعات!

لقد جاء في الوثائق الأميركية المعدّة منذ عام 1996، وفي معرض التحضير لعهد بوش الابن، مايلي بالحرف:" تغيير طبيعة علاقات إسرائيل مع الفلسطينيين، بما فيها دعم الحق بمطاردة حامية داخل الأراضي الفلسطينية جميعها، وتعزيز بدائل عن قبضة عرفات الحصرية"! وأبلغ بنيامين نتانياهو، رئيس الوزراء حينئذ، بمضمون تلك الوثائق، كي يعدّ خطاباته ويضع سياساته على أساسها، غير أنه لم يكن الشخص الجدير بمجاراة الإدارة الأميركية القادمة في حروبها الاستباقية الشاملة، حيث حرب المطاردة الحامية المطلوبة من الإسرائيليين ضدّ الفلسطينيين ليست سوى الوجه الآخر للحرب الاستباقية التي تشنها الولايات المتحدة ضدّ العراقيين! وهكذا في وقت مبكر، في عام 1998، التقى جورج بوش وآرييل شارون، اللذين سوف يصبحان رئيسين لاحقاً، وسوف يتوليان شنّ الحروب المتكاملة، الاستباقية والحامية، في فلسطين والعراق، ثم في غيرهما، لكن المقاومة في العراق وفلسطين قيّدتهما ومنعتهما من الانتقال إلى بلدان أخرى، واضعة إياهما في مأزق خطير!

إنه لمن دواعي الأسى بل الغضب أن بعضنا، عن حسن نية وجهل أو عن سوء نية وخبث، يلحّون على إظهار شارون بمظهر القائد المستقل، بينما هو ليس أكثر من مرتزق مأجور لا يملك من أمره الخاص شيئاً، وهو بالفعل، كما يلقبونه، مجرّد بلدوزر لا يتحرك من تلقاء ذاته، ويتوجب علينا أن نتعرف على سائقه، فما فعله شارون لم يكن سوى تنفيذ ما جاء في الوثائق الاستراتيجية الأميركية، التي وضعت منذ عام 1996، بصدد سياسة المطاردة الحامية ضدّ الفلسطينيين، المتناسقة مع سياسة الحرب الاستباقية ضدّ العراقيين، وجدير بالذكر أن الرئيس جورج بوش الابن زار فلسطين المحتلة في أواخر التسعينات، وحلقت به طائرة مروحية ليلقي نظرة شاملة على الأرض العربية المقدسة، فكانت ملاحظته التي تفوّه بها هي أن عرض الأرض التي أقام الإسرائيليون كيانهم عليها ليس أكثر من عرض شارع من شوارع المدن الأميركية! ويفترض أنه توجه حينئذ بنظره شرقاً، واستحضر استراتيجيته الجذرية التي سوف تجعل المشروع الصهيوني، في حال نجاحها، يشمل ما بين البحر المتوسط وشرق العراق على الأقل!

لقد كان آرييل شارون مجرّد أداة تنفيذية، وبلدوزراً بالضبط كما يصفه أصحابه، وقد بدأ إعداده في واشنطن، منذ عام 1998 على الأقل، للانطلاق تحت إشراف الأميركيين وتوجيههم شبه المباشر في حرب المطاردة الحامية ضدّ الفلسطينيين، وهو بدأ حربه في وقت متقارب جداً مع انطلاق الأميركيين في حربهم الاستباقية ضدّ العراقيين، لكنه فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق الأهداف الأساسية، وأولها استئصال المقاومة وانصياع الشعب الفلسطيني، على الرغم من تفانيه الإجرامي، مثلما فشل سادته في العراق على الرغم من تفانيهم الإجرامي!

بقيت الإشارة إلى النظام الرسمي وشبه الرسمي، العربي والإسلامي، فهذا النظام في معظمه مندمج عضوياً إلى حدّ كبير في النظام الاحتكاري الصهيوني العالمي، وهو متواطئ إن لم نقل شريك في الحرب على أمتنا، وقد أحكم حصاره على الشعبين الفلسطيني والعراقي، وقدم خدمات ضرورية كبرى للمحتلين الأميركيين والصهاينة، وقبع صامتاً ينتظر بلهفة نجاح الأعداء في استئصال المقاومة، فالنظام الرسمي وشبه الرسمي عدو لدود للمقاومة، ويتطلع بدوره إلى هزيمتها واستئصالها، وإلى انصياع الأمة وخضوعها، وها هي رموز هذا النظام تتابع فشل حرب شارون بقلق وتنظر إلى غيابه بأسف، تماماً مثلما تتابع فشل حرب بوش في العراق بقلق، وتنظر إلى تخبطه بأسف!