لا يمكن فهم "التيار الثالث" على سياق التجربة السويسرية، سواء في الحرب العالمية الثانية أو حتى اللحظة الراهنة، لأن التكوين السويسري بتنوعه يحمل واقعا استثنائيا وضمن تجربة تاريخية مرتبطة بواقع التوازن الأوروبي. لكن الصورة السويسرية ربما تغري بمحاولة التجرد والهروب من أي خصوصية لإسقاط هذه الآلية داخل جغرافية تحكمها الصراعات. وربما دفع هذا الواقع إلى الحديث عن لبنان كـ"سويسرا العرب"، على الأخص عندما احتدم الصراع مع إسرائيل، وأصبح المد القومي العربي حالة "ثورية" داخل الشرق الأوسط. لكن لبنان سرعان ما وجدت نفسها كنقطة صراع، ليس لأن التجربة السويسرية فاشلة، بل لأن أفق التيار الثالث لا يمكن أن يتخذ صورة واحدة.

ما بين "سويسرا" ولبنان، او حتى المنطقة بأكملها، سمة التنوع مهما كانت هويته، إذا كانت قوة التنوع "السويسري" أتاحت مجال إبداع في رسم الدولة على شاكلة هذا الأمر، فإنه وسط الثقافة التي تحكم مجتمعاتنا عموما يصبح التنوع رعبا لأن الصراع يحتاج "مركزية" ... والمركزية تمحو الفوارق .. فهل يمكن ان يبقى "التنوع" سيفا يهدد الوجود او يقدم صورة للتشرذم وفق النموذج العراقي !!

بالطبع فإن التيار الثالث على الشاكلة السويسرية لا يمكنه التواجد كـ"نسخة طبق الأصل" داخل مجال لم تنسجم فيه بعد "الهوية الثقافية" مع "الدولة" ... فالتنازع القائم ما بين واقع التنوع والدولة يعبر في النهاية عن مشكلتين أساسيتين: الأولى هي أن الدولة غير قادرة على التعبير عن المزيج الثقافي، والثانية هي ان التنوع لم يجد بعد آليات للتفاعل مع الدولة وداخل المجتمع في آن.
داخل هذه الصورة ظهرت الأحزاب بعد الاستقلال في سورية وكأنها تخص مناطق معينة، بينما تطورت الأحزاب الفكرية ضمن صورة مركزية لا تساعد على التعامل مع التنوع كعامل قوة. ولا شك ان الصراع مع إسرائيل كان عاملا حاسما في هذا الأمر لأنه اعتُبر مقياسا للهوية، لأنه حدد درجة الولاء للوطن، في وقت كان من المفترض أن يرسم هذا الصراع طريقة إدارتنا للتنوع الذي نحمله في مواجهة حالة التعصب داخل "الدولة العبرية".

ومن جديد يبرز اليوم عامل التنوع بعد التجربة العراقية، حيث ترتبط "الديمقراطية" على النسق الأمريكي بإظهار هذه الميزة الحضارية على أنها نقطة الافتراق ومولد الأزمات، ليصبح التمثيل العددي أساسا في رسم الآليات الديمقراطية. ويبدو ان الإدارة الأمريكية حسمت الأمر سلفا وفق نموذجين، فمقابل "ديمقراطية الكتل السكانية" هناك الحكم المركزي وإلغاء التنوع. لكن تبسيط المسألة على هذا السياق هو الذي يولد الأزمات. ومسألة "التيار الثالث" تبدو ضرورة للتعامل مع الواقع الاجتماعي كـ"تنوع" يمنح القوة ويولد الإبداع، لأن التعامل مع الوطن هو تفاعل مع مكوناته، ورسم "الغد" على سياق هذه المكونات، وليس تجاهلا لها أو اعتبارها افتراق ومقدمة لرسمه على أساس "كتل سكانية".

"التيار الثالث" ليس مسؤولا عن تحويل المفاهيم، بل من واجبه تقديم نموذج التفاعل الذي يجعل التنوع الذي نحمله صورة لمجتمع منفتح بامتياز ... لأن هذا التنوع قدر تاريخي وليس حالة طارئة لمرحلة سياسية عابرة.