تعتبر شخصية الدكتور فاوست واحدة من أبرز رموز الأدب الغربي الحديث والمعاصر،وطيلة القرون الخمسة الماضية صار بطلا لمئات القصص والحكايات الشعبية،وقدم على خشبة المسرح بأشكال مختلفة منذ الشاعر الانكليزي كريستوفر مارلو(معاصر شكسبير) وحتى جوته وبول فاليري.ومع مرور الوقت ترسخت الصورة وصار فاوست كرمز ادبي وكفكرة، يشبه من أوجه كثيرة كرة الثلج،لأنه كلما تدحرج الى الأمام، مع التاريخ ازداد حجمه،وبعدت حقيقته. وتذهب معظم الروايات المتعلقة بالحكاية الى أنه شخصية حقيقية،تحولت بفعل ألسنة الرواة،الى اسطورة .

ولد فاوست ومات في المانيا قبل خمسة قرون،وكان محدثا لبقا،ذكيا،مع انه مشعوذ على قدر خارق من المعرفة بعلوم السحر والتنجيم،ويعود الفضل في ذلك الى انه ابرم عقدا مع الشيطان، يجعل بموجبه قدراته السحرية غير محدودة،على ألا يخالف للشيطان أمرا.وفي رواية جوته ورد ان فاوست كان طبيبا خيرا،ولكنه لايستطيع شفاء جميع حالات المرض، لذا قرر أن يبيع نفسه للشيطان، على أن يساعده في شفاء المرضى.

وفي الحالين،وفي نهاية اللعبة،يتنازل فاوست المهرج والطبيب،عن أمواله وسحره لخادمه فاجنر،ويستولي عليه الفزع والهم حين فكر بقرب وفاته،فراح يشكو بألم تشيعه سخرية الشيطان،وأخذ يدعو اصدقاءه وطلابه لتناول الطعام،ويخبرهم بدنو وفاته،ويعبر لهم عن ندمه الشديد للعقد الذي ابرمه مع الشيطان،وتمر ليلة رهيبة على الساحر،وفي الصباح يعثر على جثته ممزقا،ولايشك أحد في أن الشيطان هو الذي قتله ومثل به بعد أن استخدمه،وفرغ منه.

هكذا نجد أن نتائج هذه الصفقة سريعة وفعالة،فقد تيسر للدكتور فاوست أن يسحر أعين الناس،وأن ينجز الكثير من الخوارق،جعلت العامة والسحرة يعجبون به، ويذعنون له،لكن الشيطان تخلى عنه في نهاية المطاف، ودبر له نهاية على الطريقة الشكسبيرية.

إن حال النظام السوري اليوم هو كما حال الدكتور فاوست. ووجه المقارنة هنا، هو ان فاوست الذي عجز امام العلم اتجه الى السحر،وأثبت جدارته فيه. وهذا مانراه نحن ازاء النظام الحاكم في بلادنا، الذي فشل تاريخيا في حل مشاكله الداخلية، فصار يهرب الى كل ماهو طافح على السطح. بارع في الكلام،مشعوذ، على قدر خارق من المعرفة بعلوم السحر والتنجيم. بهر الجميع بطول يده في تراكيب الطلاسم،وقدرته على انجاز الخوارق.وهناك عشرات القصص والحكايات التي تتحدث عن معجزاته، في الاتيان بجميع الممكنات والمستحيلات.استطاع ان يثير الاعجاب والضحك بخدعه،قام بألعاب سحرية بقصد تملق الآخرين،دبر لاصدقائه المكائد وابتزهم ،وحين كان يختلف معهم لايتورع عن دس السم، أو الديناميت.شاطر في كل شيء،وفي كل مرة يبدو انه يقترب من النهاية يبرم عقد اخلاص جديد مع "الشيطان"،فيعود الى الزيف والسحر والخدع البصرية وابتلاع النار والالعاب والحيل البهلوانية.

لقد تيسر للنظام السوري،كما للدكتور فاوست،أن يسحر أدمغة وأعين الناس،وأن ينجز الكثير من الخوارق التي التي أمدت في عمره السياسي حتى اليوم. لكن من غير الواضح حتى الآن، انه في وارد الاتعاظ بمصير فاوست لدى كريستوفر مارلو الذي لقي نهاية مفجعة،ومات ميتة تليق بالأشرار.

ستكون نهاية فاوست السوري شبيهة،على الأرجح، بنهايته لدى مارلو،بعد أن اصبح بلا أمل،غامض المصير،ضائعا لايعرف في أي اتجاه يسير.لقد قاربت اللعبة من النهاية لكنه لايريد أن يصدق ذلك،ويرفض أن يعيد للشيطان عدة السحر التي سلحه بها طيلة هذه الفترة من أجل خداع الناس،لذا فإنه يتأرجح بين عدوانية مفرطة، واحباط من تلقى صدمة لاقدرة له على احتمالها.وهو في كل الأحوال يحاول اليوم أن يعقد صفقته الأخيرة. لذا فإنه يجري في جميع الاتجاهات.

لم يكف منذ مطلع السنة الحالية عن الحديث حول صفقة، يبرمها مع الجهات الدولية المعنية بالتحقيق الدولي بجريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري،وقد ارتفعت وتيرة هذا الكلام خلال الشهرين الأخيرين بسبب الطريقة التي يعمل وفقها سيرج براميرتس قاضي التحقيق الذي تسلم الملف بعد انتهاء انتداب سلفه ديتليف ميليس في نهاية العام الماضي.وقد حاول النظام أن يستغل تكتم القاضي الدولي تجاه التحقيق، لكي يوهم الناس أن عصا التحقيق الدولي ارتفعت عن رأسه، وصار بوسعه أن يعود الى ممارسة اللعب من جديد،لاسيما الاغتيالات والتخريب على الساحة اللبنانية.وقد حاول النظام أن يشيع انه على تفاهم تام مع القاضي الجديد،وإن مجريات التحقيق تسير على مايرام،لكن المتابعين يؤكدون العكس، ويقولون انه تصرف على النحو الذي تصرف فيه المرة الماضية مع ميليس.لقد صار واضحا انه إما إن يلجأ للتوتير المستمر،أو اشاعة الأمل الكاذب. بينما هو يترك كل شيء للحظة الأخيرة،أي قبل تقديم التقرير الى مجلس الأمن بوقت قصير.في المرة الماضية ظل يماطل عدة اشهر قبل أن يرسل في اللحظة قبل الأخيرة، رستم غزالي والمجموعة المطلوبة معه للتحقيق في فيينا.تم ذلك في بداية ديسمبر،أي قبل اسبوعين من صدور تقرير ميليس .هاهو النظام يتبع هذه المرة نفس الأسلوب، في مايتعلق باستجواب الرئيس السوري بشار الأسد.وقد بقيت هذه القضية معلقة حتى أيام معدودة، من صدور التقرير الذي من المقرر أن يقدمه برامر تس في نهاية هذا الاسبوع.

إن الهدف من وراء ذلك،هو كسب الوقت والتشويش، واشاعة جو من الاحباط والتخويف لدى الاطراف المعنية مباشرة بدم الحريري، لدفعها نحوعقد صفقة. ويلاحظ خلال الشهرين الماضيين أن حديث الصفقة طغى على ماعداه،ولم يمر اسبوع إلا وسربت اوساط النظام معلومات تقول ان النظام السوري مرتاح للتعاون مع القاضي الجديد، حتى ان احد المصادر السورية لفتت الانظار الى ابتسامة وزير الخارجية وليد المعلم كدليل على هذه التقدم.

ليس بوسع أحد أن يجزم ما اذا كانت هناك صفقة أم لا،لكننا نأمل ألا تهدم الولايات المتحدة تمثال الحرية لتبني مكانه تمثالا للشيطان. وليد المعلم اليوم في موسكو للبحث عن فرصة جديدة،راقبوا الابتسامة الافلاطونية! فمواهب الرجل تشير الى أنه خبير في تحضير الأرواح،لكن الصدمة سوف تكون أقسى على السوريين، اذا وجدو أنفسهم أمام خيار وحيد هو رفع الاعلام البيضاء