عبد اللطيف مهنا

خمس دقائق فقط لا غير، تلك التي فصلت بين انسحاب من كانوا يوصفون بالمراقبين الدوليين (الأمريكان والبريطانيين) وقدوم المحتلين الإسرائيليين... شهود الزور، حماة العدوان الدائم الدائمين، ورعاة النكبة العربية المستمرة في فلسطين، قرروا الرحيل عن أريحا... رحلوا، ليفسحوا المجال لحليف أو وكيل، أو قل صنيعتهم أو مدللهم، لا فرق، ليحل بطشه محلهم... ولتبدأ على الفور حملة "أول القطاف" الإسرائيلية في مشاع حقل "المقاطعة" بغية جني حصاد سجنها المحاصر... تلك الحملة المبيتة، التي بدأ الإعداد لها قبل عام ونصف، وصادق عليها رئيس الوزراء بالوكالة ايهود أولمارت قبل أكثر من عشرة أيام... الحوامات، والدبابات، والجرافات، وسائر مفردات الآلة العسكرية المتطورة الطاحنة بدأت تفعل فعلها... عشر ساعاتٍ، وقاصي العالم ودانيه، وعلى رأسه الأقربون، يتفرّج على حفلةٍ تدميرية إسرائيلية بامتياز، تدور وقائعها على خشبة تلك "المقاطعة" في مسرح تلك المدينة الفلسطينية العتيقة، المكروهة لديهم المحرمة عليهم توراتياً، والتي تصادف بدء عمرها المديد مع بداية التاريخ... الحفلة أسماها متعهدوها، تدليلاً، "الانتقام ودفع الحساب"..!

انتقموا، وانتقموا... دفّعوا أريحا، دفّّعوا الفلسطينيين، ومعهم العرب جميعاً، مجرد واحدةٍ من مسلسل فواتيرهم الانتقامية المتواترة، الذي لم ينقطع منذ أن جاءوا خلسةً، ثم جهاراً، إلى بلادنا ذات يوم... تلك الفواتير الدموية التي ما أنفكوا يعدونها ليجبونها على امتداد أكثر من قرن... دُكّت أسوار وجدران "المقاطعة" شبراً شبراً، حتى أصبحت أثراً بعد عين... أخرجوا الشرطة، مع سجناء الحق العام، شبه العزلاء، إلا من بعض بنادق لا تجدي ولا تغني من موت، في مشهد إذلال متعمد ومرسوم سلفاً... أخرجوهم شبه عراه، وأخذوهم معهم، بين مكره على رفع اليدين ومكبل أو معصوب العينين... أنجزوا موسم "أول القطاف"... كان من بين المختطفين الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحمد سعدات، واللواء فؤاد الشوبكي، وأبطال تنفيذ حكم الأعدام بالوزير الصهيوني، الأكثر غلواً في تطرفه، داعية الترانسفير الأشهر، رحبعام زئيفي... أخذوهم هم والجرحى، وحتى أجداث الشهداء، وقفلوا... تركوا أريحا مكلومة تلعق جراحها، وتتذكر:

لكن، عفواً... نقطة نظام... لم تمر الحفلة الإسرائيلية هذه، دون أن يشوبها مشهد فلسطيني النكهة... مشهد يقض أبداً، بما يعنيه، مضاجع الغزاة، ويطرح، بما يرمز إليه أبداً، مسألة وجودهم قيد التساؤل... روى المحامون فيما بعد:

دُكت الجدران، وتهاوت واحدها بعد الآخر حتى بلغوا زنزانته، حيث وجد القائد الفلسطيني، الرافع الرأس عبر تاريخه النضالي المشهود له، وعلى امتداد حياة حافلةٍ بالمجالدة وكانت صنواً للمعاناة... وجد نفسه ورفاقه وجهاً لوجه أمام الدبابات... لم يكن لديهم، وهم المعتقلون، سلاحاً... رفض البطل الفلسطيني رفع يديه مستسلماً، أو خلع ملابسه مستجيباً لأوامر مصمموا رقصات الحفلة الدموية الإسرائيلية... فأوثقوه... نقلوه أسيراً... كما فعلوا معه المرات... مرات كان أولها ذات يوم سبق سواه من الأيام فيما مجموعه عشرين عاماً قضاها في معتقلاتهم... رفض الإجابة على أسئلة محققيهم... لم يعترف أحمد سعدات يوماً بالغزاة... والآن، عودة إلى ما تذكرته أريحا:

تذكّرت، أن ما كان من الراحلين غيلةً عنها هو تماماً ما كان من أسلافهم، قبل ثمان وخمسين عاماً خلت... عام النكبة، أو أعوامها، التي لا زالت تتوالى فصولاً تحت مراقبة أو رعاية ذات المراقبين، عندما حمل البريطانيون المحتلون المنتدبون عصاهم ورحلوا عن فلسطين... عندما رحلوا بعد أن أتموا تسليم مفاتيح ما انتدبوا عليه لمن جاءوا بهم من شتى أصقاع الأرض، وأقاموهم مقامهم... لم يرحلوا إلا بعد أن ضمنوا استبدالاً، كان وعداً عليهم، لفلسطين بإسرائيلهم... وذكّروا أريحا:

بأن "المقاطعة"، أو ما كانت "مقاطعةً"، وسجنها، كانا "حصن تيغرت" البريطاني، الذي شيده أولئك المحتلون المنتدبون، وأطلقوا عليه اسم مهندساً منهم، شاد عديد الحصون المشابهة في فلسطين الانتداب، وربما في سواها من بلاد العرب آنذاك... حصون استعمارية كانت في فلسطين، سُلّم المستعمر أغلبها عند الرحيل لربيبه المغتصب الطارئ، أو الوارث، عن تعمُّد مبيت مع سبق الإصرار المشترك، للمنتدب المتواطئ الراحل... ذاك الذي سبق وأن وعد المغتصب، قبل قدومه إلى فلسطين غازياً، أن لا يرحل عنها إلا بتمكينه فيها وتركه خليفة له من بعده في ربوعها...

أما ما كان من القادمين، فهو ما ذكّر أريحا، وذكّرنا معها، وذكّر من يريد أن يتذكّر في العالم، أن ما فعلوه، هو ذات ما فعلوه ويفعلوه على امتداد تلك الثماني والخمسين عاماً التي مرت... بيد أن هناك من أهل أريحا من قال:

إنها ضرب من بلطجة عودونا على مثلها، وتسوية احتلالية مذلة جاءت على طريقتهم، لمسألة ما كانت لتكون، لو لا تسوية سابقة من ذات التصنيف حبلت بها اتفاقية مشينة كانت قبل أربعة أعوام... اتفاقية توخّت حينها إنقاذاً لما تبقّى من مقاطعة أخرى حوصرت ودُكّت، حتى كادت أن تغدو قاعاً صفصفاً... أيضاً، سبق وأن بناها البريطانيون، في رام الله... غدر الأمريكان والبريطانيون والإسرائيليون بالسلطة... أسقطوا اتفاقية "مقاطعة" رام الله بانسحابهم المدبّر من "مقاطعة" أريحا... نكثوا بما كانوا قد أتفقوا معها عليه يومها...

...فردّ عليه من ردّ:
تلك كانت خطيئتها التي نغص بها اليوم... ثم مالذي بقي من اتفاقيات عقدوها معها ولم يسقطوها... متى كان من شيمهم أن يحفظوا عهداً أو يحترموا اتفاقاً؟!!
ثم أردف متمتماً: لقد حوّل المحتلون برعاية مراقبيهم يا صاح وطناً كاملاً إلى "مقاطعات" تحاصر فتُدك، وسجوناً تكبر وتسوّر وتستباح... ثم أفصح، لافتاً نظر سامعيه إلى تقرير صادرٍ عن مركز المعلومات الوطني يقول:

أنه منذ اندلاع انتفاضة الأقصى في 28/9/2000 وحتى 29/2/2006 فحسب، سقط من الفلسطينيين 4298 شهيداً، من بينهم 801 طفلاً، و46303 جريحاً. ولا زال خلف القضبان منهم أكثر من 9200 أسيراً... دون أن نحسب ما تلاهم من الشهداء والجرحى والمعتقلين فيما يلي هذا التاريخ. ومن بينهم شهداء وجرحى وأسرى "المقاطعة" المندثرة مؤخراً...
...وقال ثالث:

لعلها خطوة أمريكية بريطانية إسرائيلية عنت فيما عنت فك ارتباط "الشراكة" التسووية مع سلطة اللاسلطة، بعد أن استنفدت أغراضها بالنسبة لهم، لا سيما بعد أن جلب صندوق الانتخابات، أو الديمقراطية الفلسطينية المقاتلة، حماساً إلى سدتها المتهاوية... فسخر سامعه قائلاً:

ومتى كانت مثل هذه الشراكة الموهومة، على سوءها وكارثية قبولها من حيث المبدأ..؟! هل كانت سوى مسلسل من إملاءات، وإذعانات... وتنازلات؟! متى نظروا لها إلا باعتبارها سلطة أسيرةً أو صوريةً لا حول ولا طول ولا دور لها إلا التكيف مع تلك الإملاءات؟!
فقاطعه الأول مسترسلاً:

لعله انتقام منها برعاية وتواطؤ دوليين، ربما هو أكثر اتساعاً في نطاقه من موقف دولتي المراقبين المنسحبين... وقد يكون عقاباً لها على تلكؤها في القيام بما يرونه المطلوب منها... وحتى لخسارتها الانتخابات سابقاً، وفوزها بها حماسياً لاحقاً... انتقام بدأ بتقليص ما كان من تواصل أمني معها، وتفكيك ما نسج من العلائق الأوسلوية السابقة الأخرى... عقاب يجيء في سياق تصفوي جديد من سماته السعي لإعادة صياغتها على أسس مفاهيم "شراكة" جديدة منشودة، تتوائم أو تخدم ما يعرف بخطة "الانطواء"... أو ما يعرف إسرائيلياً بالانفصال من طرف واحد... أي بدء مرحلة انقضاض جديدة على الوجود السياسي والمعنوي والجسدي الوطني الفلسطيني، تشهد إرهاصاتها زيادة ملحوظة في وتيرة الاغتيالات واتساعاً في قوائم التصفيات والاعتقالات، وأنشطة التدمير، وتسريع بناء الجدران التهويدية الزاحفة، وتعزيز حركة الاستعمار المتضخمة المتصلة، وإنجاز الفصل نهائياً بين شمالي الضفة وجنوبها، بابتلاع القدس وأكنافها... ومن ذلك ما أعلن عنه أولمرت من نية لضم مستعمرة أريئيل... فأكمل محاوره موافقاً ومضيفاً:

مرحلة، عنوانها الأبرز هو تدجين حماس وتطويعها سلطوياً، سطر أحداثياتها الموقف الأمريكي وتابعه الأوروبي المطالب بمحاصرة حكومتها المنتظرة سياسياً ومادياً. والحث شبه المستجاب دولياً وإقليمياً، على مقاطعتها على هذه الصعد... وداخلياً، الضغط على فتح، أو على بعضها، لدفعها لعدم المشاركة في إئتلافها المزمع... إلا إذا:

اعترفت بإسرائيل، أي لم تعد فلسطين وقفاً إسلامياً لا يجوز التفريط به في قائمة مبادئها. والالتزام بالاتفاقات غير المحترمة التي عقدتها سابقتها الأوسلوية، ونبذ المقاومة، وضبط المقاومين، أو ما يشبه القيام بدور عجز عنه المحتل... أو ما يعني البدء في إطلاق شرارة نوع من الاحتراب الأهلي... باختصار السير على خطى سالفتها... فعل ما لم تريده تلك أو كانت تقوى على فعله... طرح جديد المعادلة على حماس سؤالاً يبدو اليوم سيفاً مسلطاً على رأسها:
كيف لك حل مثل هذه المتحارجة الصعبة، أو شبه المستحيلة الحل... التوفيق بين السلطة الأسيرة ومبدأ حق مقاومة الاحتلال حتى دحره؟؟!!
...وإسرائيلياً:

كان استخدام الدم الفلسطيني حاضراً بفعاليته المعتادة في المزاد الانتخابي الإسرائيلي... قالت صحيفة "يدعوت احرونوت" معقبةً على حصيلة "أول القطاف" الأولمرتي في أريحا:
"النتائج جدية بالنسبة لحزب كديما... الناخبون يحبون مثل هذه العمليات التي يهان فيه العدو، وتعود فيها قواتنا إلى قواعدها سالمة"... وحيث اعتبرت الصحيفة ما جرى في أريحا مجرد "ضربة تحت الحزام" و "دق مسمار آخر في ثابوت أبي مازن"، ذكّرت بأنها، أي الضربة، جاءت "بعد يومين فقط من لقاء بيرس وأبي مازن في عمان"، مؤكدةً: أن "أول قطاف" الجنرال شاؤول موفاز كان "دفن المعسكر الفلسطيني المعتدل تحت خرائب مقاطعة أريحا"... وتصف "يدعوت احرونوت" عمليه الدفن هذه بلغة توراتية متشفية:
"دون إطلاق الأبواق ودون سبع جولات، أسقط الجيش الإسرائيلي يوم الثلاثاء، أسوار سجن أريحا... لقد كانت العملية ناجحة... نقلت رسالة إلى حماس وإلى السلطة الفلسطينية: حتى ولو بعد مرور وقت، سيأتي يوم الانتقام ودفع الحساب دائماً... كما تقول الأدعية. أريحا مدينة الزيتون في عيد المساخر مدينة الحظ السيء للفلسطينيين"!

وحيث دار جدل بين السلطة ودولتي المراقبين المنسحبين، إذ كان من الطرفين من نفى أو فسّر أو أكّد، قطع أولمرت قول كل خطيب، عندما فاخر ببطولات جيشه المدجج ضد سجناء عزّل، وحراسهم شبه العزّل، فقال:
الولايات المتحدة وبريطانيا أعربتا عن "دعم كامل" للقرار ب"شن المعركة" على المقاطعة في أريحا... ولم يلبث أن جاء أولمرت المدد الدولي قبل أن يرتد إليه طرفه، عندما توافقت كونداليسا رايس مع زميلها الروسي لافروف على طي المسألة، عبر الدعوة لضبط النفس، ودعوة حانوتيي "الرباعية"، التي لم تنبس ببنت شفه، بالتكفل بالباقي، أو ببذل المزيد من الجهد "ليعود الوضع إلى طبيعته"!!!

ليس لأولمرت أن يجهد نفسه بالتأكيد على ما هو المؤكد، فتاريخ الصراع العربي الصهيوني يحفل بالبراهين على ما يؤكده خليفة شارون... ابتداءً بوعد بلفور وحتى وعود بوش، مروراً بما بينهما... ومنها كميات البلوتونيوم والمواد الكيماوية البريطانية التي كشف أخيراً أنه تم تزويد إسرائيل بها عام 1966، والتي قيل أنها تكفي لصنع قنبلة نووية أقوى 20 مرة من قنبلة هيروشيما... وصفقة المياء التقليلة التي قيل يومها أنها نرويجية، ليثبت لاحقاً أنها بريطانية المصدر... ودون أن ننسى، والشيء بالشيء يذكر، أن مفاعل ديمونا هو فرنسي المنشأ... وو...

وحتى "أول قطاف" ما كانت المقاطعة في أريحا، الذي يبدو أنه أعاد السلطة الأوسلوية إلى ما قبل أيام "أريحا أولاً"!
...ونزيد، فنذكّر بالفيتو الأمريكي البريطاني الذي لوّح به قبل أيام في مجلس الأمن، ليخفق المجلس العتيد في إصدار بيانه حول ما جرى في أريحا...

ما حدث في أريحا له ما بعده... إنه ليس مجرد انتقام... كانوا قد استنفدوا أوسلو، فدفنوها حية... استبدلوها بخارطة طريق ولدت ميتة بعد أن فرغوها بتحفظاتهم الشهيرة من مضمونها... بحيث يصح القول، أنهم حتى لم يبقوا على السلطة إلا لحاجة في نفس يعقوب. إنه ليس أكثر من محاولة توظيفها ما أمكن في دور أمنيّ يريدونها أن تقوم به نيابة عنهم هو ضبط المقاومة. إذ لم يتمسكوا، كما هو معروف، من تلك الخارطة، التي قلنا أنهم ألحقوها بما استبدلوها بها، إلا بأول بنودها المتعلق بالتزامات السلطة الأمنية بموجبها... واليوم، وبعد التحول الانتخابي الفلسطيني، يبدو أن هذه السلطة بحد ذاتها قد أصبحت تحت طائلة ما تصفه صحيفة "معاريف" على وجه التالي:

"العملية في أريحا تجسد مرة أخرى ما يحاول أبو مازن كبته، مفهوم اللاشريك الذي يرمي إلى تبرير خطوات أحادية الجانب آخذ في الاتساع. من الآن فصاعداً لم يعد الحديث يدور فقط عن انسحابات وأملاء خطوط حدود بحكم الأمر الواقع، بل تجاهل مطلق لأثار الخطوات الإسرائيلية على السلطة الفلسطينية. فقد ثبت أمس أن الولايات المتحدة وبريطانيا أيضاً مستعدتان لأن تتجاهلا هذه الأثار".

...ما حدث في أريحا فضيحة دولية بامتياز... لكن، قبل ذلك، هي فلسطينية أولاً... فضيحة سلطة عاجزة، عقّب كبير مفاوضيها على ما حدث قائلاً بأنها "بدأت تدرس مصيرها"... سلطة لا حول ولا طول لها إلا الندب، أو التمسك باتفاقات لم تعد موجودة، أو التعلق بمسيرة "سلمية" وهمية تساوي عملياً مسار تصفية مبيت للقضيةً برمتها... لدرجة، وعلى هامش ما جرى في أريحا، أن تطالب أطرافاً شملت أعضاء من المجلس التشريعي، والمجلس الوطني، ومحافظين، ورؤساء بلديات، كثيرهم من حزب السلطة نفسها، رئيسها بحلها والعودة إلى ما قبل أوسلو... وعربية ثانياً... فضيحة عجز أو تعاجز مزمن مقيم، وإدارة ظهر مشينة لقضية قضايا الأمة في فلسطين... في أريحا أعاد الراحلون المتواطئون والقادمون المحتلون الصراع إلى مربعه الأول... قالوا لنا أن لا خيار أمامكم إلا المقاومة... وحسناً فعلوا!!!