نجيب نصير

في مسيرة التاريخ البشري كان هناك الغزو ، اي تمدد مجتمعات على حساب مجتمعات بسبب الحيوية الانتاجية ، وبغض النظر عن قوة السلطات كانت هذه الحيوية بأشكالها العسكرية او الايديولوجية او الثقافية او الاقتصادية تأخذ شكلها القاسر في جعل التمدد حقيقة واقعة تحت مسميات مثل الاحتلال او التغيير او الفتح او السيطرة او الانتداب او الاعمار ( الاستعمار حسب الصيغة العربية ) او الاستعمار الاقتصادي او السيطرة القطبية ومن ثم السيطرة الكونية ولكن بالنتيجة كانت هناك والى يومنا هذا حيويات مجتمعية اقوى من حيويات اخرى التي خضعت ولما تزل تخضع للاجتياح على الرغم من ارتقاء اشكال الاخضاع وتطورها لتصل الى ما هي عليه اليوم .

ولعل اكثر اشكال المصالح التي تدعو للغزو ( سلميا او فيزيائيا ) هي تلك المصالح الاقتصادية التي تعبر عن ضغط المنتجين من اجل تسويق منتجاتهم، وهنا المفصل الذي يجعل من الطبقة الوسطى محور عمليات التغيير حتى ليبدو ان المجتمع يغزو نفسه بنفسه في حال آن اوان الارتقاء بالاستهلاك تحت عنوان وشعارات الرفاهية والامان الاجتماعي الخ حيث تغير المجتمعات الحيوية نفسها بنفسها عبر الطبقة الوسطى الذي لا يعني شيئا سوى قدرتها على الانتاج اذا لم تكن قادرة على شراء هذا الانتاج ،اي ان تكون في مستواه الثقافي، ولعل حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة (مارتن لوثر وحركته) مثال واضح على هذا النوع من التغيير، حيث دعمت الشركات الكبرى ارتقاء ( الزنوج) الى مواطنين اميركان من اصل افريقي كي يكونوا قادرين حقوقيا وبالتالي ماديا ومعنويا على استهلاك منتجاتها .

ولعل الاستعمار في شكله المحدث مع بدايات الثورة الصناعية كان هدفه الاساسي هو بيع منتجه الى البلدان ذات الحيويات البائدة او الضعيفة قاصدا الشرائح الكبرى من جهة والقادرة على فهم منتجه من جهة اخرى ، ولعل تعبير الشرائح المثقفة في هكذا مجتمعات انطبقت لا حقا على العسكر، حيث بدت اهمية الايديولوجيا كمزود لقيام الحروب والثورات ، حيث نظر هذا الاستعمار ومن هذه الناحية الى تغيير بنية المجتمعات بما يتناسب مع انتاجه وكميات هذا الانتاج التي لا يكفيها المجتمع المحلي كمستهلك ( وايضا موادا اولية )، فاقتسمت الاسواق وندبت نفسها كراعية للتطور ونحن نذكر تماما من الذي ادخل التلفون والكهرباء والترامواي الى البلاد العربية، اي هم أنفسهم اطراف سايكس بيكو ليتحول على التوازي من الاضاءة بالقنديل الى الاضاءة بالكهرباء ، والحكم من الوالي العثماني الى البرلمانات كتعبير ثقافي محدث، ومع أن هذا التغيير جاء لصالح هذه البلدان الا أن دواعيه كانت استعمارية ، مما يستجلب بطريقة او اخرى مديحه كوسيلة تثاقف ارتقائية كما نفعل عند شكر نابوليون على ادخاله المطبعة .

واليوم كما البارحة وربما غدا يظل التحدي هو ذاته أن نكون منتجين أو مستهلكين ،فالانتاج قد لا يضعنا بموقع القادرين على استعمار الغير ولكنه يضعنا في موقع المنافسة الندية ولكن شرط الانتاج هو شرط ثقافي الا وهو الحداثة في كل مناحي الحياة خصوصا الحقوقية منها ، لتبدو حالة الانتاج مشابهة بجزء منها لحالة الاستهلاك ،اي الحصول على مستوى ثقافي مؤهل للاستهلاك ويتجاوزه وصولا الى الإنتاج الذي يعني عدم الخضوع لقرارات التغيير من الخارج ، وهذا ما هو ملحوظ في تجارب مجتمعية معاصرة مثل سينغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية، بينما كان قطع جزء من الشوط والتوقف القصدي مثل تجارب العراق والجزائر وسوف نرى مثل هذه التجارب في كل من الخليج العربي وبعض جمهوريات السوفييت السابقة، لان الارتقاء بثقافة الاستهلاك قد يبعد خطر التغيير الخارجي لسنوات او حقب لكنه لا يضع المجتمعات المستهلكة على طاولة التنافس كما انه سوف يعرضها للتغيير وازماته عند اول تطور ارتقائي هام في نوع وكم السلعة المستقبلية ، لذلك يبدو الوجه الآخر من الديموقراطية في العراق، او تجارب الديموقراطية في مصر والكويت والسعودية الخ هي من المحدودية لدرجة تظهر معها وكأنها كتحضير لبنية ثقافية قادرة على استهلاك المنتجات الجديدة (اتصالات بنوك اسهم اسلحة الخ)، حيث يتم قطع الطريق على اي تطور اقتصادي خارج السيطرة التامة ،لنرى حجم المقاومة الذي يلقاه مشروع ايران النووي باعتماده على قوى ذاتية (اذا قرأناه من هذا الباب) اي قوى الانتاج المجتمعي الذاتية وكم كان جديرا بالمناقشة دوليا لو ان اليورانيوم خصب في روسيا، من هنا تبدو المجتمعات ذات الحيوية المنخفضة بين مطرقة التقدم وسندان الاستقلال، الاستقلال الذي هو بحقيقته الكبرى مسؤولية أخلاقية كبرى، ومسؤولية إدارية كبرى تتجاوز في تنكبها "حرتقات" السياسة التكتيكية التي تعتمد على نمط سابق في الاستهلاك، صحيح ان نمط إدارة الأزمات السياسية هو ما يحفظ ماء الوجه إعلاميا ولكن في العمق هناك تأجيل حقيقي (الى إشعار ما) لمواجهة منتج / مستهلك ونتائجها التي تتلخص بهزائم صغيرة تتجمع لتصبح مصيبة ولكن هذه المصيبة نفسها تتراكم لتصبح كارثة لتتراكم تواليا ليصبح الفناء هزيمة صغيرة ( تحت مسمى المؤامرة ) تتراكم وهكذا دواليك.

من هنا تبدو المجتمعات المستهلكة، مجتمعات ذات حيوية منخفضة تسعى الى تبرير هزائمها بالنكوص التراثي او المؤامراتي مما يشغل العاطفة بدلا عن العقل، ويصرف الوقت في الرجاء بدلا عن العمل، واتهام الآخر طالما الذات بهذه البراءة البسيطة والبدائية ، وكأن بهذه المجتمعات تريد الوصول الى حالة الانغلاق لا لها ولا عليها للحصول على حالة عدالة يوتوبية، ولكن من في هذا العالم مستعد أن يترك آخرا في حاله ...هل هكذا هو سجل البشرية ؟؟؟؟؟