لا أعرف كيف يمكن للدكتور يحيى العريضي أن يبرر لو أتيحت له فرصة الظهور على التلفزيون، وسئل عن سبِب اقالته من إدارة المركز الاعلامي السوري في لندن، واحضاره موجوداً إلى سورية، وانهاء ندبه من وزارة الاعلام وإعادته إلى عمله في جامعة دمشق بالطريقة المهينة التي انتهت بها مهمتة الدونكيشوتية في تحسين صورة سورية في الخارج. ولكني لا أشك في أنه سيجد الأعذار المقنعة من وجهة نظره لمواصلة دفاعه عن الاصلاح على الطريقة السورية، والاشادة بحكمة القرار الذي أنهى مهمته، ورجاحة عقل من أصدره، ولن ينسى بالطبع توجيه الشكر له!

لاأضرب في المندل ولا أفتح الفال حين أخمّن ردة فعل الدكتور العريضي على ما حدث معه. فالرجل بدأ حياته الاعلامية مديراً للقناة الثانية في التلفزيون السوري. وما ميّزه على شاشتها صوته الهامس الذي يحتاج لمشاهدٍ مزودٍ بجهاز لتقوية السمع أو لمشاهدة عاشقة لفهم ما يوشوش به ضيفه. ولولا الترجمة العربية التي كانت تظهر على الشاشة ما كان يمكن فهم السؤال العبقري الذي يوجهه لكل ضيوفه، عن رأيهم في المواقف القومية والمبدئية والثابته للسياسة السورية. وهذا السؤال - الذي لا يحتمل في المكان الذي يوجد فيه الضيف إلاّ جواباً واحداً - يعتبر الماركة المسجلة للتلفزيون السوري بقنواته الثلاث. والفارق الوحيد بينها هو توصيف القناة الأولى باعتبارها القناة الاجبارية الرصينة لمواقف السياسة السورية بالقومية والمبدئية والثابتة، في حين توصفها القناة الثانية بالثابتة والمبدئية والقومية لأنها توجه للمشاهد الانكليزي الذي يقرأ من اليسار لليمين.

أما القناة الفضائية فتفضل بداعي الاختلاف والانفتاح كونها موجهة للمشاهد الخارجي توصيفها بالمبدئية والقومية والثابتة. وبفضل هذا السؤال يمكن لأي مشاهد العثور على القناة السورية، لأن طرحه على كل الضيوف يبدأ من ما بعد تلاوة القرآن الكريم التي يفتتح بها البث، وحتى ما قبل ظهور النشيد السوري الذي يعلن ختام الارسال، وطوال فترة البث يسمع المشاهد هذا السؤال يطرح على المحلل السياسي وخبير الجولوجيا وبائع البطيخ والحلاق النسائي والدكتور محمد حبش، ليرددوا نفس الجواب وكأنهم تلاميذ مدرسة ابتدائية غشوا في امتحان من نفس الورقة!

وقد نقل الدكتور العريضي خبرته الطويلة مع هذا السؤال إلى لندن بعد تعيينه مديراً للمكتب الاعلامي السوري، ليحسّن صورة سورية إعلامياً في الخارج، باذلاً الوعود معتمداً استراتيجية القصة المعروفة التي تقول (إما أن يموت الملك أو الحمار أو أموت أنا).

فعندما يحشر في سؤال عن الاصلاح يتحدث عن الصبر باعتباره مفتاحاً للفرج. وعندما يحرج في مداخلة عن القمع يتهم مواجهه بنفسه القصير، ولولا مشاهدتي لصورته على الشاشة لظننت في كثير من المناسبات التي سمعته يتحدث فيها بأني أشاهد الداعية عمرو خالد في برنامج تلفزيوني ديني يبذل الوعود فيها للمؤمنين بأنهار العسل والحليب في الجنة. ووصل تماهي الدكتور العريضي بعمرو خالد إلى الحد الذي ظننت فيه بأنه سيظهر ذات يوم في برنامج تلفزيوني ليردد للسوريين قول الرسول محمد "اصبروا آل ياسر فإن موعدكم الجنة". وكانت المفارقة الطريفة التي ترد على كل كلام الدكتور العريضي عن الاصلاح الموعود وهو يملأ شاشة فضائية عربية تأتي من الشريط الاخباري الذي يمر تحت صورته، وفيها خبر عن اعتقال أجهزة الأمن السورية للكاتب علي العبد الله، أو آخر عن منع اجتماع للجنة المؤقته لاعلان دمشق، أو إحالة المحامي هيثم المالح الرئيس السابق لجمعية حقوق الانسان في سورية إلى المحكمة العسكرية، أو الحكم على رياض دردار الناشط في لجان المجتمع المدني في سورية من قبل محكمة أمن الدولة بالسجن خمس سنوات، أو منع الندوة الشهرية لمنتدى الأتاسي. وكانت مهمة الدكتور العريضي أن يتحول إلى سيزيف جديد يحمل صخرة الاصلاح من جديد إلى أعلى الجبل بعد أن تدحرجها له إلى الأسفل الأجهزة الأمنية بخبر اعتقال أو تضييق أمني جديد في سورية.

وكنت في كل مرة أسمع فيها الدكتور العريضي يرد على من يسأله عن أي إصلاح يتحدث وقد اعتقل فلان، أو حكم على علان أتذكر سؤالي له عندما عيّن مديراً للمركز الاعلامي السوري في لندن، عن هدف المركز ومهمته كمدير له، وأتذكر إجابته حول تحسين صورة سورية في الخارج. عندها قلت له: حسّنوا صورة سورية لدينا هنا في سورية وستتحسن تلقائياً في الخارج، وأظن أن الدكتور العريضي يذكر بأنه وافقني حينها، وبذل لي كمية لا بأس بها من الوعود الاصلاحية، التي لم أحصل منها إلاّ على تهديدات وصلتني من عدة جهات أمنية، كان آخرها استدعائي في 13 شباط/فبراير الماضي إلى مبنى الخابرات العامة بدمشق، ليقوم مدير المخابرات السورية اللواء علي مملوك بالتحقيق معي في مقالتين نشرتهما في "القدس العربي" قبل ثمانية أشهر هما (مؤتمرات صحفية لاخفاء المعلومة لا لإعلانها: السحب الكبير ليانصيب مؤتمر البعث) و (اعترافات مشاهد سوري في ظل حكم التلفزيون الواحد)، وإهانتي وتهديدي ومنعي من كتابة أي مقال حتى لو عن المازوت (كما قال لي بالحرف) أو إجراء أي لقاء ما لم أحصل على موافقة العميد الذي قادني إلى مكتبه، وإلاّ كان مصيري السجن. وبعدها تركني للعميد/الرقيب الذي أخذ دور الملاك الحارس، وقام مشكوراً بتوضيح الفارق لي بين النقد الهدام وِالنقد البناء، ثم نصحني بأن لا أكتب بطريقة المسخرة، وعندما تحدثت معه عن مفهوم الكتابة الساخرة، وعن كتاب محمد الماغوط المعنون (سأخون وطني) سألني: بالله عليك كيف يكون وطنياً من يكتب كتاباً بهذا العنوان!!

لم يحدث في تاريخ سورية أن طلب من كاتب أو صحافي أن يستشير المخابرات مباشرة فيما يكتبه. ولذلك تم إنشاء أقنعة مدنية مثل وزارة الاعلام واتحاد الكتاب العرب واتحاد الصحفيين ورؤساء ومدراء وأمناء تحرير الصحف لتنوب عن المخابرات في الرقابة على الفكر والكتابة في سورية. ولكن الاصلاح الذي طالما بشر به الدكتور العريضي هو الذي دفع المخابرات لتنزع أقنعتها المدنية، وتتدخل بوجهها القبيح. وخشيتي من تحقق إجراءات إصلاحية أشد مما واجهته من الاصلاح المأمول الذي بشر به الدكتور العريضي جعلني أخير نفسي بين وطن تقرر فيه المخابرات ما هو المسموح وما هو الممنوع علي كتابته، وبين أرض الله الواسعة التي لا تفرض رقابة محاكم التفتيش على كتابتي، واخترت مكرهاً أرضاً لا يأخذ فيها اللواء علي مملوك وعميده دور الملاكين الذين يجلسان على كتفي ليسجلا الحسنات والسيئات!!

فعن أي اصلاح يتحدث الدكتور العريضي الذي تنقل خلال إدارته للمركز الاعلامي السوري في لندن بين موقع شاهد الزور ومحامي الشيطان، ولم يختلف أداؤه الاعلامي بين سورية وخارجها إلاّ بارتفاع درجة صوته خلال مرحلته اللندنية، والتي أرجعها لأحد سببين. فإما أن ارتفاع صوته تناسب طرداً مع ارتفاع أجره الشهري، أو أن صوته قد ارتفع بعد خروجه من سورية، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.. وأي معركة لنظام ضد مواطنيه!