ضيا اسكندر

عندما يناديني الشباب والصبايا بلقب (عمّو).. ويقفون احتراماً لي في الباص لأجلس مكانهم..

عندما تعبر الصبايا الجميلات من أمامي ولا أعيرهم أكثر من التفاتة حنونة..

عندما أنهمك وبسرّية تامّة بالبحث عن العقاقير المقويّة للباه..

عندما أحنّ لزيارة مرابع الطفولة وأجهش في البكاء..

عندما تنمو الشعرات بكثافة على حواف الأذنين ويقترح الحلاّق بمنتهى اللطف إزالتها..

عندما أسير الهوينى محدودب الظهر شابكاً يديّ إلى الخلف.. وأجلس في الحديقة العامة بكسل وأكبو على المقعد مهدلاً رأسي, وأنتفض بين الحين والآخر لأعود وأغط في إغفاءات قصيرة..

عندما لا أسمع همسات العشاق ولا هسيس قبلاتهم وهم على مقربة منّي في المقعد المجاور..

عندما لا تجفل عصافير الدوري منّي, وتنقر بسعادة فتات الخبز المتناثر من بين يديّ المرتعشتين أبداً..

عندما أنظر إلى معارفي من تحت حاجبيّ الكثين الأشيبين.. وأتلكأ بمعرفة أسمائهم..

عندما أفكر بالإقلاع عن التدخين والكحول.. لتخفيض سكر الدم والكوليسترول..

عندما تصبح هوايتي قراءة أوراق النعي الملصقة في الشوارع, والتمعّن حصراً بأعمار المرحومين..

عندما أقوم بزيارة ضريح زوجتي أسبوعياً – بعد أن كانت شهرياً - متمنياً من الله أن يقرّب لقائي بروحها..

عندما أطلب من أحفادي مساعدتي في قصّ أظافري, لقاء حكاية.. ويتسلّون بتعداد الشامات على وجهي ويديّ, ويسألون بدهشة عن سرّ العروق الزرق في ظاهر الكفين.. ويراقبوني بقرف وأنا أنظّف طقم أسناني..

عندما أُرغمُ الآخرين على مجاملتي وسماعي.. فأستمتع بسرد الذكريات عليهم, مشيداً بأمجادي للمرة المليون..

عندما أُستثنى من الحوارات السياسية اللاهبة, ويضيق ذرعاً بي الحاضرون لدى إقحام نفسي وتقديمي مداخلة مطوّلة..

عندما يكفّ المخبرون عن تسطير التقارير بحقي بحجة شيخوختي وخرفي.. وتتغاضى كافة فروع المخابرات عن مساءلتي..

عندما يطالبني أولادي بتوزيع الحصص الإرثية عليهم, ويقومون بتحضير كلمات الرثاء لإلقائها في مأتمي..

يعني ذلك... أنني بتّ قاب قوسين أو أدنى من مصافحة الرفيق عزرائيل..

وما يحزّ بنفسي من ألم بعد كل هذه السنين, أنني حتى الآن لم أستطع معرفة الأسباب الحقيقية لانتحار غازي كنعان أو محمود الزعبي. ولا معرفة تفاصيل تشكّل ثروات محمد مصطفى ميرو, وعبد الحليم خدّام, وحكمت الشهابي, وجميل الأسد, و.. و.. و... مع أنهم كلهم كانوا قادةً كباراً في الدولة, ينادون بالاشتراكية والحرية والعدالة والمساواة ومحاربة الفقر والطائفية البغيضة, ويدعون لرص الصفوف والنضال لتحرير الأرض, ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. ويهرعون سنوياً لأداء فريضة الحج, ويؤدّون الصلوات في الجوامع بالمناسبات الدينية ببث حيّ ومباشر على شاشات التلفزيون!
ما يغيظني, أن الفروع الأمنية وأجهزة الرقابة والتفتيش وبعض القيادات السياسية وقلّة من المهتمّين... وخالق هذا الكون... هم وحدهم العالمون بل الراسخون في علم فساد بواطن الأمور.. ويحتكرون هذا العلم لأنفسهم دون أن تكون له مفاعيل ملموسة على الأرض!

ما ينغّص عيشي, أنني لا أدري متى سينتهي الاعتقال السياسي ونتخلّص من الأحكام العرفية؟

وإلى متى ستبقى جريمة "نشر أخبار كاذبة توهن عزيمة الأمة وتفتّ في عضدها" تؤرّق الكتاب والصحفيين؟

وكيف يمكننا إلغاء الطائفية والقبلية والعشائرية...؟
هل.. وكيف.. ومن أين.. وإلى متى..؟

آه يا زمن!

يبدو أنني سأودّع هذه الدنيا وأنا في حالٍ من الذهول والدهشة والخيبة.. من استفشار النهب والفساد والنفاق من جهة, واستمرار التعتيم وغياب الشفافية والمحاسبة من جهة أخرى. رغم كل ما كتبته وكتبه غيري عن هذه الآفات التي تفتك بهذا الوطن المعذب..
يا ربّ!

رغم حبّي الشديد للحياة, فإنني أتبرّع بخمس دقائق من عمري هبةً مني أقدّمها بكل نيّة حسنة, لمن يوافيني بالإجابة على أسئلتي التي أهرمت فؤادي وسوّدت حياتي..

تُرى, هل سأورّث أحفادي جحيم هذه التساؤلات.. دونما إجابة!

عن جريدة (قاسيون) العدد 274 / 9/6/2006