بدت المهندسة فرح جوخدار ساهمة حزينة حين حلت ضيفة على برنامج «مدن الفن والإنسان» في الفضائية السورية. كذلك مقدم البرنامج الدكتور علي سليمان, المهيمنة على ملامحه كآبة مزمنة, وكأنه خصص برنامجه الثقافي المميز لتأبين الفن في بلدنا بما يستحقه من أسف وتفجع. من شاهد حلقة يوم الخميس الماضي, وسمع صوت الضيفة المهندسة, لانفطر قلبه أسى على ما يحل بمدينة حمص على يد المطورين والمحدثين الجدد من موظفي المحافظة.
فرح جوخدار لم تندب أو ترفع صوتها بالأنين والصراخ, بالعكس أظهرت حلماً عند الغضب منقطع النظير, وكأي أم ثكلى مهيضة الجناح جلست تروي بلغة مشفوعة بالرجاء اليائس قصة اغتيال أشجار الآكاسيا والكينا في شارع الغوطة الحمصي, واستسلام أهالي حمص لقضاء وقدر فرضه مجلس المدينة عليهم, فحرمهم أفياء مدينتهم وظلالها, المشغولة في ذاكراتهم من سويعات أيام مضت, وتاريخ مقيم مازال يعيش في حناياهم!!
لم تسأل المهندسة المسؤولين رد القضاء عن مجزرة الكينا والآكاسيا والصفصاف, وإنما اللطف فيه, وطالبت كأضعف الأيمان عرض أي مشروع يخص المواطنين على الرأي العام للمناقشة والحوار, كي لا تتكرر المأساة تلو المأساة؛ حسبهم اقتلاع أشجار النخيل المعمرة من إحدى الساحات, والاستعاضة عنها ببحرة من السيراميك. وكان من المضحك المبكي, ذر الرماد في العيون بالقول: إن النخلات التي اقتلعت من قلب المدينة, نقلت إلى مكان آخر قريب من المصفاة خارج المدينة!! وبتعجب الحمصي تساءلت, كيف سيستمتع الناس بالنخيل وقد ابعد عن ناظرهم؟ وناشدت المسؤولين ويدها على قلبها, عندما تحدثت عن مركز «صبحي شعيب» الذي ستشمله يد الإزالة برعايتها التعسفية لترفع مكانه برجاً إسمنتياً, لأن منظره صار مثل العين المقلوعة كبناء «دقة» قديمة بين مبنيين مودرن. تقول فرح, «عندما ارتفع هذان البناءان لم تتم مراعاة مركز صبحي شعيب, بما يعنيه هذا المكان من أهمية ثقافية وحضارية, كمأوى لم يبق غيره للمثقفين والفنانين», بعد أن تم تأهيل مقهى الروضة العريق وفق المواصفات الطاردة لجنس الأقلية الثقافية, والخوف كل الخوف من أن يكون مشروع تأهيل مدينة حمص مرسوماً وفق المواصفات النابذة للعرق الحمصي, فنغمض عيناً ونفتح أخرى لنجد لافتة عند مدخل حمص تقول «الحماصنة مروا من هنا», دونما دليل يثبت مرورهم.
المعلومات التي ساقتها المهندسة كانت مدعومة بتقرير مصور عن الأمكنة المنتهكة تجعل المشاهد على يقين بأن كل شيء لدى الحماصنة مختلف, حتى حظهم العاثر ليس كغيره من الحظوظ, إذ يأخذ شكل الكارثة المسكوت عنها. فحمص القديمة كاليتيم على طاولة اللئيم, قياساً إلى دمشق وحلب القديمتين. ففي الأولى, تقيم جمعية أصدقاء دمشق الدنيا ولا تقعدها, إذا طالت يد الأذى حجراً قديماً أو خميلة, ومعروفة المعارك الضروس التي خاضتها الأديبة ناديا خوست على صفحات جريدة تشرين, وتشهد كم مرة أفلح «أصدقاء دمشق» بحماية مدينتهم, بدءاً من منع قطع شجرة في محيط مطعم قصر النبلاء, إلى وقف تنفيذ مشروع محطة الحجاز. وقبل ذلك كانت للدكتورة نجاح العطار مواجهات عنيدة في هذا المجال, أشهرها في السبعينيات حين وقفت بمواجهة مفتي الجمهورية لمنع هدم مئذنة أثرية.
قد لا تكون تلك المجابهات الدفاعية, نجحت تماماً في الحفاظ على التراث المعماري والبيئي, لكنها بلا شك قللت خسائر دمشق القديمة, وكذلك الأمر في حلب عاصمة الثقافة الإسلامية بجهود جمعية العاديات, أنقذت من ضمن ما أنقذته السوق القديم من طريق عريض كاد يأكله بالكامل. أما حمص أم الحجارة السود, فرحم الله شاعر المهجر الحمصي نسيب عريضة وقوله:
عد بي إلى حمص ولو حشوا الكفن
واجعل ضريحي من الحجارة السود
لو كان شاعرنا حياً, ورأى تنكيل الأيادي الوطنية البيضاء بالحجارة السوداء, لما صدق, واعتبر الأمر مؤامرة استعمارية كيدية عليه شخصياً, كي لا يبقى بحمص حجر اسود لتنفيذ وصيته, وإلا كيف يصدق أن لا صوت ولا رأي يسمع للحماصنة في مدينتهم, وأن المتمسكين بالموروث الثقافي والهوية يعاملون كالمتخلفين عقلياً, لتفضيلهم حجر الخرائب والشجر على رفاهية البشر!! وربما لو كانت هذه الرفاهية معممة على الجميع لهان الأمر أو بعضه, لكنها حكر على مستفيدين ومتمولين ومتعهدين, لا يرون في معالم حمص وتاريخها سوى سلعة, قابلة للبيع والشراء في سبيل امتلاء جيوبهم.
وأكثر ما يثير الأسى أن وزير الثقافة زار مركز صبحي شعيب بعد الاحتجاجات الكثيرة, ووعد خيراً, إلا أن المهندسة الحمصية تؤكد أن وعوداً مثلها قطعت من مسؤولين آخرين لمنع اغتيال أشجار الغوطة, ولم تفد شيئاً إزاء نهج قرر بكل إصرار وتصميم الإطاحة بمعالم المدينة. المشكلة, أن تجربة الحماصنة مع هذا النهج المثابر أفادتهم بنصيحة قاسية ستبقى قرطاَ في آذانهم:
إذا كنت لا ترضى بما قد ترى
فدونك الحبل به فاختنق
وهذا بالضبط ما جرى مع مواطن حمصي أصيب بذبحة صدرية وهو يرى بلدوزرات المحافظة تقضي بدم بارد على حياة حوالى مئة شجرة معمرة, دون أي اعتبار للاحتجاجات والاعتصامات والشموع والدموع التي سالت. واليوم تتابع جحافل آليات المحافظة تقدمها لتمحو ملامح المدينة العريقة, لتزرع مكانها مدينة أخرى «مبندقة» لا تشبه حمص, وإنما مدينة مجهولة النسب وبتعبير عامي €ليس معروفاَ قرعة أبيها€. هكذا, تمت بكل خشونة «الحلاقة على الناعم» لشارع الغوطة وللحماصنة في نهاية العام الماضي, وحسم الجدال حول حق الإنسان في الحفاظ على بيئة مدينته ومعالمها, لتظهر عيوب الكتل المعمارية, فيما كانت الأشجار الخضراء تسهم في تغطية واجهات فقيرة وجرداء.
ليهنأ الجزارون, شارع الغوطة الحمصي بـ«اللوك» الجديد, أشبه بجدة عجوز, وقور وطيبة, طار عقلها فخلعت ملابسها المحتشمة, ولبست البكيني ونزلت بحر «كليب» التطوير والتحديث وهي تغني:

إن دام هذا السير يا مسعود
لا جمل يبقى ولا قعود