كنا نتمنى لو أن الرئيس السوري بشار الأسد قد تعالى وهو يتحدث عن النصر الذي حققه لبنان، بمقاومته ووحدة شعبه وتماسك حكمه الهش بتوازناته الدقيقة على المرارات المتخلفة عن التجربة التي فشلت في بناء <النموذج> للعلاقات بين دولتين متكاملتين بالمصالح، كما بالعواطف، واكتفى بأن يهنئ اللبنانيين، كل اللبنانيين، على النجاح في صد الهجمة الإسرائيلية الهمجية عليه، من موقع <الأخ الكبير> والشريك بالنتيجة في مكاسب هذا النجاح وانعكاساته على السياسات داخل المنطقة أو الموجهة إليها. كنا نتمنى لو أنه حصر حملته في توكيد الصمود أمام الهجمة الأميركية الشاملة، والتي نعرف جميعاً أن الحرب الإسرائيلية على لبنان هي في صميمها.

وكنا نتمنى لو أنه اكتفى بتحية لبنان المنتصر (للعرب جميعاً) بجهاد مقاومته الباسلة واحتضان اللبنانيين بعضهم بعضاً، بحيث حمى أبناء المناطق التي لم تطلها النار الإسرائيلية، في بيروت والجبل والشمال، كرامة إخوتهم المهجرين قسراً من مدنهم وقراهم، واحتضنوهم في قلوبهم وبيوتهم، من غير أن يغفل أن مؤسسات السلطة فيه، وحكومته بالذات، قد اجتهدت للدفاع عن وطنها وحقوقه ما وسعها الدفاع، في ظل جو دولي وعربي ضاغط، وإن أظهر إشفاقاً لا يوقف حرباً إسرائيلية ولا يمنع القتل الجماعي وتدمير البلاد. وفي هذا المجال فإن اللبنانيين الذين قصدوا سوريا، تحت ضغط النار الإسرائيلية، قد وجدوا فيها ما عهدوه في شعبها دائماً من صدق الأخوة ونبل التكافل والتضامن والتعاطف، إذ فتح المواطنون السوريون قلوبهم قبل بيوتهم لإخوتهم اللبنانيين، وأبوا عليهم أن يذهبوا إلى الفنادق أو حتى إلى دور الضيافة الرسمية التي أعدتها الحكومة السورية في دمشق وسائر المدن، وأصروا أن يتقاسموا معهم رغيف الخبز وغرف البيت. كنا نتمنى لو أن الرئيس السوري بشار الأسد قد تصرف، في حضرة النصر المحقق، بدماء اللبنانيين وبأسباب حياتهم ومنشآتهم العامة والخاصة والبنية التحتية لوطنهم، بتسامي <الأخ الأكبر> الذي يعرف الجميع ويعترفون بدوره في دعم المقاومة ومساندتها، ولكنهم يتوقعون منه رعاية أخوية صادقة بعد كل ما تعرّض له وطنهم الصغير من مآس، أخطرها اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بكل تداعياتها الجسيمة على منعتهم الوطنية وعنوانها وحدتهم، ثم على سلطتهم التي تشققت فجسمت خلافاتهم وأوهنتهم وقسمتهم مما مكّن الخارج من أن يوسع هامش تدخله في شؤونهم الداخلية... وما أعادهم إلى وعيهم ووحدتهم إلا تنبههم لما يدبر لهم والذي تجلى في الحرب الإسرائيلية.

وبالتأكيد فإن فشل التجربة السورية في لبنان قد مكّن لكثير من التدخل الأجنبي أن يتغلغل، وأن يصبح عنصراً مؤثراً في السياسات، خصوصاً مع تحوّل الخلاف مع سوريا إلى قطيعة أسهمت أو أنها تسبّبت في إشاعة <مناخ حرب> بين البلدين اللذين ما تزال تجمعهما نظرياً معاهدة أخوة وتعاون وتنسيق وأطنان الاتفاقات الحيوية التي لم تنفذ في مجالات التعاون والتوكيد على المصالح المشتركة. ومؤكد أن اللبنانيين، على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم، يضيقون ذرعاً بجو <الخصومة> الذي نشأ وساد وما زال سائداً بين بيروت ودمشق، على المستوى الرسمي وانحدر أحياناً إلى المستوى الشعبي، وأنهم يتمنون كما شعب سوريا أن تنتصر مشاعر الأخوة ومصالح البلدين المتكاملين، وأن يصار إلى معالجة جادة، وبكثير من الشجاعة المعبّرة عن الحرص، كما عن الفهم العميق لانعكاسات الصراع الدولي على لبنان الجريح، لا سيما في ظل <القطيعة> التي باتت مصدر استثمار سياسي مجز..

من هنا فإن الحريصين على استعادة الوئام بين دمشق وبيروت، وعلى محاصرة النفوذ الأجنبي الذي من البديهي أن يستفيد من الخلاف بين الأشقاء، كانوا يتمنون لو أن الرئيس بشار الأسد قد اغتنم لحظة النصر البهي الذي حققته المقاومة، المعززة بالتضامن الشعبي الممتاز، وبالتماسك الحكومي الذي استمر بل وتأكد، برغم الضغوط الأجنبية والعربية (وهي ثقيلة الوطأة) فتوجه إلى لبنان كله، بأطراف الموالاة والمعارضة فيه، ليفتح صفحة جديدة على قاعدة الأخوة والشراكة في المصير، متخففاً من أثقال المرارات وشبهة الخصومة لأطراف محليين، وخصوصاً أنه ينازل قوى عظمى تتصدّرها الولايات المتحدة وفرنسا فضلاً عن إسرائيل وقد صدق في وصفها بأنها لا تريد السلام وبأن لا سبيل لمواجهتها إلا بالمقاومة. لقد توقف اللبنانيون بالمقارنة أمس بين خطابي الرئيس السوري بشار الأسد والسيد حسن نصر الله، فوجدوا في خطاب قائد المقاومة المنتصرة روح التسامح والدعوة إلى الوحدة والتحذير من مخاطر التدخل الأجنبي، مع تحذير ملطّف من تعكير مناخ الوحدة الوطنية، وتنبيه مخفف للذين يتاجرون بموضوع دخول الجيش إلى الجنوب ويصوّرون مهمته وكأنها مكرّسة <لاعتقال> سلاح المقاومة واجتثاث المقاومين، مفترضين أن <التدخل الدولي> يحمي في حين أنه هو هو مصدر الخطر.

إن اللبنانيين الذين عاشوا محناً وتجارب خطيرة كادت تذهب بوحدتهم وبدولتهم، يشعرون الآن ومع اندحار الغزوة الإسرائيلية المدعومة أميركياً إلى الحد الأقصى حتى لتكاد تكون حرباً أميركية، أو مقدمة لتلك الحرب، يعرفون أنها لن تتوقف عند حدود لبنان، بل هي ستتكامل مع الحملة الدموية التي تشنها إسرائيل على المقاومة المنتصرة بالديموقراطية في ما تبقى للفلسطينيين من فلسطين، ومع الحملة الدموية التي أغرق الاحتلال الأميركي العراق والعراقيين فيها، وصولاً إلى الحرب المفتوحة على إيران الثورة الإسلامية منذ زمن بعيد والتي تنذر بالتقدم نحو ذروتها العسكرية في القريب العاجل. وهم يعرفون أن سوريا مستهدفة وأنها محاصرة بالخطر، ويتمنون لو أنها تخففت من مخاصماتها اللبنانية حتى لا يكون لبنان خاصرتها الرخوة.. وربما كان هذا سبباً إضافياً في أن اللبنانيين كانوا يتمنون لو أن الرئيس السوري بشار الأسد، الذي أكد في خطابه أنه يعي هذه المخاطر جميعاً وأنه يستعد لمواجهتها بالمقاومة، قد أفاد من الفرصة الممتازة التي وفرها هذا النجاح الباهر في صد الحرب الإسرائيلية، ليفتح قلبه وأبواب نظامه للبنان، وأن يتحوّل إلى داعية لتعزيز صمود اللبنانيين ووحدتهم بمنطق <الأخ الأكبر> المتسامي عن أن يكون طرفاً في أية خصومة، لا سيما في ظل الخطر الداهم الذي يتهدد وطننا العربي جميعاً، وسوريا منه في المقدمة.

طلال سلمان
رئيس تحرير " السفير " اللبنانية