من الصعب فهم انفجار بكفيا خارج الأجواء السياسية التي سادت لبنان خلال اليومين الماضيين، فكاقة المؤشرات كانت توحي بأن النشاط الدبلوماسي يتصاعد باتجاه إيجاد مخرج، او على الأقل التعامل مع الأزمة من زاوية جديدة تهدف إلى إيجاد قاعدة سياسية إقليمية وعربية لأي حل ممكن، بدلا من عمليات التدويل التي تصاعدت بشكل مكثف، ووصلت إلى مرحلة قامت بها الأطراف اللبنانية بتقديم شكاوي بحق بعضها إلى مجلس الأمن.

وعندما تناقلت وكالات الأنباء أخبار انفجار بكفيا، فإن الواقع السياسي اللبناني اعاد تكرار نفسه على سياق ما حدث عندما تم اغتيال النائب بيير الجميل، أو باقي التفجيرات الأمنية التي تبدو وكانها جزء من السيناريو السياسي المستمر منذ اكثر من سنتين. فما حصل في بكفيا جاء بعد أن تعمد السفير الأمريكي جيفري فيلتمان التشويش على أجواء التهدئة على الساحة السياسية اللبنانية، واصدر بيان مكتوب هاجم فيه سوريا وحزب الله وعمد فيه إلى تبرير العدوان “الإسرائيلي” على لبنان في الصيف الماضي.

ورغم أن البيان جاء بعد لقائه مع النائب سعد الحريري، وحمل شكلا بروتوكوليا بمناسبة مرور عامين على اغتيال رفيق الحريري، لكنه في نفس الوقت قفز فوق المعطيات الحالية بالعودة إلى التذكير بحادثة الاغتيال وإعادة أجواء التعبئة على مساحة العداء مع سورية التي تشكل الباب الأساسي للهجوم على حزب الله والمعارضة بشكل عام.

ولم ينتظر التصعيد الأمريكي طويلا حتى حدث انفجار بكفيا كصورة لطبيعة الاهتزاز السياسي الذي يسود الأجواء اللبنانية عموما، فالمسألة ليست من هو المسؤول عن هذا الانفجار، وتوجيه الاتهام إلى الأطراف التي تعمدت التصعيد، لأن الانفجار الحالي يوحي على أن الدبلوماسية لا تعمل بمفردها في الدخول إلى الأزمات اللبنانية، وأن التناقض الذي يظهر بين الأطراف اللبنانية لا يتعلق بالعناوين الذي تظهر تارة تحت إطار "المحكمة الدولية" أو "حكومة الوحدة الوطنية"، بل بتصفية التركة السياسية الكاملة التي تراكمت منذ التبدلات الإقليمية الحادة التي طالت الشرق الأوسط منذ عام 2004. فالتعامل مع الواقع اللبناني لا يزال يحمل نفس الخصائص التي سادت منذ منتصف الخمسينات ووضعت لبنان ضمن إطار سياسي يتجاوز جغرافيته الحقيقية، ليصبح مقياسا إقليميا لكل الحالات السياسية الشرق أوسطيا، وربما كان انتقال الفصائل الفلسطينية إلى لبنان في عام 1970 مؤشرا إضافيا على أن "الجيوبولتيك اللبناني" يخضع للإطار الإقليمي بالدرجة الأولى.

وفي هذا السياق فإن التصعيد الأمريكي عموما لم يكن يعني لبنان بالدرجة الأولي بل التأثير على النقاط الحساسة شرق أوسطيا، والتي تملك أيضا قدرة على نقل التوتر إلى مساحات سياسية إضافية. فانفجار بكفيا ليس نتيجة فقط لعمليات التصعيد الأمريكي الأخير إنما ينقل "التأزم السياسي" إلى إطار التعامل مع كافة الأطراف الإقليمية قبل تحديد نوعية الانفراج اللبناني تحديدا، فالولايات المتحددة تتعامل مع لبنان على أنه:

  نقطة ارتكاز لتعاملها مع الأطراف التي وصفها نيكولاس بيرنز، وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، بـ"عصابة الأربعة" التي تشمل سورية وإيران وفنزويلا، فهناك ثلاث أطراف على الأقل لها علاقة بالموضوع اللبناني. ولا تستطيع الإدارة الأمريكية فصل "التصعيد" عن هذا التصنيف السياسي، لأنها تعتبر أن الأطراف اللبنانية لا تملك خيار التعامل خارج هذا التصنيف. ومن يرى بأن ما يجري في لبنان حروب للآخرين على أرضه، فإن منطق التصعيد للإدارة الأمريكية هو "تصفية حساباتها الإقليمية فوق أرضه".

  رغم ان المسارات السياسية لأزمات الشرق الأوسط تسير بشكل منفصل وفق الاستراتيجية الأمريكية، لكن كافة التكتيكات تجتمع في لبنان وفق التكتيك الأمريكي الذي يحاول تشكيل الخارطة إقليميا. فالإدارة الأمريكية تتعامل مع لبنان على أنه "نقطة مواجهة" في مشروعها، على أساس أنه ينتمي لـ"مرحلة الديمقراطية" التي افتتحتها باحتلال العراق.
بالطبع فإن التصعيد الأمريكي و "الانفجار" كنتيجة سياسية، يمتلك مساحات واضحة داخل لبنان بعد وصلت صيغة التحركات فيه إلى ذروة أزمتها، فاقتسام الشارع اللبناني انفصل بشكل كامل عن مسألة "الاقتسام" السياسي داخل مؤسسات الدولة في لبنان. وهذه المأزق خلف أزمات لا علاقة لها بموضوع الخلاف القائم والمرتبط أساسا بسياسة الحكومة اللبنانية، فالاقتسام المذهبي لم يكن هدفا لأي طرف لكنه ظهر نتيجة ترابط "التصعيد" مع وصول الآطراف السياسية إلى نقاط مبهمة في رسم المشروع السياسي المستقبلي للبنان.

حادثة بكفيا عادية جدا في مسار السياسة اللبنانية التي تظهر التفجيرات على مساحتها وكأنها ضمن إيقاع "الدورة السياسية" في لبنان، لكنه في نفس الوقت يدفع الحلول السياسية باتجاه آخر يتعامل مع لبنان على أساس الامتداد الإقليمي لكافة مسائلها السياسية.

مقال منشور في الوطن السورية