فيليب فال
صورة "كاب"

عرفت مدينة باريس في الأسبوع الماضي افتتاح الدعوى القضائية ضد جريدة "شارلي إبدو" في موضوع الرسومات الكاريكاتورية للنبي محمد. ففي غمرة حملة الإنتخابات الرئاسية, حضرت شخصيات رفيعة المستوى حرمة المحكمة للشهادة لصالح " العلمنة وحرية التعبير".
ولقد أبدت وسائل الإعلام ومعها المسؤولون السياسيون شبه إجماعها في القضية. حيث كتبت مثلا اليومية الأطلسية "لوموند" أن: "الدعوى المرفوعة ضد "شارلي إبدو" تعود بنا إلى عصور وأزمنة مضت. وإن صام المدعون عن الإشارة إلى الحجّة هذه, فيجب أن نتذكّر بأن ما أشعل فتيل الجدل هو التمثيل بشخص الرسول محمد, والذي يعتبر شتماً في نظر الإسلام. نحن إذن أمام نزاع معتّم".

وبغض النظر عن شكوى المتضررين, ولا ما ستؤول إليه المحاكمة قيد الحديث, فإن كلام العامة يشبّه الهيئات والمنظمات الإسلامية بالجماعات الظلامية الغريبة عن الجمهورية العلمانية الحديثة. فبإسم العلمانية أصبحنا نندّد ونطعن في من يؤمن بديانة عظيمة كالإسلام. منذرين بالتناقض ذلك, وبإسم العلمانية, بدأنا نفقد روح التسامح. يجب أن نتمالك أنفسنا قبل أن نطأطأ الرأس ونغطس مستسلمين في "حرب الحضارات".

إن العلمانية الحقيقية هي الإبنة الشرعية للحكمة. فلنأخد الوقت الكافي لتحليل أصل ورهانات الصراع هذا. سوف نرى بأن
القضية في مجملها ركّبت بعناية فائقة حتى يثار بعضنا على البعض الآخر بطريقة إصطناعية.

المظاهر

في شتنبر 2005, أطلت علينا وسائل الإعلام الدانماركية بما مفاده أن كاتباً لقصص الأطفال لم يفلح بعد في العثور عن رسّام كتب لتزويق مؤلف عن الرسول محمد, لرفض كل الرسامين العرض المقدّم تجنباً منهم لنقد الديانة الإسلامية. وفي ردّ فعل منه على الإمتثالية تلك, بادر رئيس تحرير أشهر يومية في البلاد إلى تنظيم مباراة لرسّامي الكتب. قبل أن يتم إصدار إثناعشر رسم كاريكاتوري أياماً بعد ذلك.

شهرين بعد ذلك, أي في نونبر 2005, طالبت الرابطة الإسلامية في الدانمارك, والتي رأت في الرسومات إهانة لها, بتقديم إعتذار على ذلك بموازاة مع تظاهرة نظمتها أمام مقر اليومية. غير أن المواقف بدأت في التصلب وبدأ معها العديد من الصحافيين بتلقّي تهديدات بالقتل. كما أن وفداً عن الرابطة السالفة الذكر هيأ ملفاً كاملا وشاملا عن القضية وسارع إلى استنفار الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي, في الوقت الذي طالب فيه إحدى عشر سفير في كوبنهاغن بلقاء الوزير الأول الدانماركي لحلّ الأزمة الناشئة. غير أن السيد الوزير رفض دعوة السفراء تحت ذريعة أنه لايملك أية سلطة على وسائل الإعلام.
كما أن وسائل الإعلام نقلت في شهر نونبر بأن حزبا سياسيا باكستانيا عرض مكافأة على من ينجح في اغتيال أحد رسامي الكاريكاتير المتورطين في القضية.فما كان من الوزير الأول إلا أن يدين الخبر, قبل أن يتّضح بأن هذا الأخير لا أساس له من الصحة.

بعد ذلك, وفي شهر دجنبر من السنة ذاتها, تم تناول القضية على مستوى قمة المؤنمر الإسلامي وقمة وزراء خارجية الجامعة العربية. وفي الإطار ذاته, فتح المندوب السام لدى الأمم المتحدة تحقيقا عن الميز العنصري في الصحافة الدانماركية. من جهته, أشار مجلس وزراء المجلس الأوروبي إلى الموقف التأجيلي لحكومة كوبنهاغن في قضية تتعلق بالميز العنصري وليس بحرية الصحافة.
ومما جاء في خطاب الوزير الأول الدانماركي بمناسبة حلول السنة الجديدة 2006, تمسّكه بحق الحرية في التعبير. كما أن نائب محافظة فيبورغ لم يعر أدنى اهتمام للشكوى التي تقدمت بها المنظمات الإسلامية بتهمة التجديف والتحريض على الحقد.
ولقد تضاعفت المظاهرات في العالم خلال شهر فبراير من السنة ذاتها, حيث طال الغضب الشعبي كلاّ من الهيئات والمصالح الدنماركية. فتمّت مقاطعة منتوجات البلد و إشعال النار في أعلامه وسفاراته. وكذلك امتدّ غضب العالم الإسلامي ليبلغ فرنسا, حيث أقدمت إحدى اليوميات على نشر الرسومات الكاريكاتورية, وأوروبا المتواطئة معها.

التناقضات

هكذا تبدو القصة غاية في البساطة, وحلقاتها محبوكة بشكل ممنهج ومترابط. والحال أن عددا من حيثياتها لا أساس لها من الصحة.

فإن كان رئيس تحرير أكبر يومية دانماركية لاقى صعوبات جمّة في تزيين كتاب موجّه للأطفال, فكيف نجح في نشر رسوم كاريكاتورية ليست بالقطع موجّهة للأطفال؟

إن يومية "جيلاند بوستن" هي أكثر الجرائد توزيعاً في الدانمارك. فهي تقود, ومنذ ثلاث سنوات, حملة عنيفة ضد المهاجرين, ولم تتوقف على إصدار المقالات الواحد تلو الآخر للإفتراء بأن الإسلام لايتماشى والديموقراطية وأن المسلمين ليسوا قابلين للإندماج داخل المجتمع الدانماركي. ولقد كان الهدف الأساس من كل ذلك هو إعادة انتخاب التحالف الحكومي الذي يقوده "أندرس فوغ راسموسن". ولقد إكتسحت "الجيلاندز بوستن" كل مناطق الدانمارك بفضل خطابها المعاد للإسلام, والذي كان الوزير الأول بطلاً له.

لقد أطاح التحالف الليبرالي- المحافظ بالإشتراكيين الدوليين الديموقراطيين الذين احتكروا الساحة السياسية على مدى 80 سنة. التحالف الذي لن يتوانى في تبنّي سياسة جامحة مبنيّة على الخصخصة والإنفتاح الليبرالي المتوحش. معتمداً على تقنية انتخابية كلاسيكية, ولتهدئة المواطنين الذين لم يستحلّوا فظاعة التغييرات تلك, حاول "أندرياس" تغيير وجهة الحوار في الشؤون الإجتماعية إلى تسميّة أكبشة الفداء: الأجانب.
كما أن مجلس الصحافة الدانماركي وبّخ الـ"جيلاندز بوستن" في مارس 2002 لإخلالها بأخلاقيات المهنة حين تعرّضت للأصل العرقي لأشخاص متورطين في إحدى القضايا الإجرامية. ولم يدع الوزيرالأول حينها الفرصة تمرّ دون تقديم دعمه اللامشروط للجريدة السالفة الذكر.

يذكر أيضاً أن سياسة العنف التي تنظّر لها الجريدة بلغت ذروتها ممّا استدعى الإشارة إليها في تقرير الـ" يوروبين نيتوورك أغانست رايسزم" (الشبكة الأوروبية ضد الميز العنصري) لعام 2004, وهي فيدرالية تنضوي تحت لوائها مجموعة من الجمعيات الأوروبية المناهضة للميز العنصري. الشبكة تلك قامت برصد فحوى ما نشرته الجريدة الدانماركية لفترة حدّدتها في ثلاثة أشهر, مما مكّنها من استنباط ما يلي:
أن 53 في المائة من الحوليّات و55 في المائة من المقالات و77 في المائة من الأخبار الموجزة و73 في المائة من المنابر الحرّة و79 في المائة من الإفتتاحيات و81 في المائة من رسائل القراء, التي تناولت الأقليات الأجنبية كموضوع لها, عالجته بطريقة جد سلبية.
بمعنى آخر أن الصحيفة لم تنشر الرسوم الكاريكاتورية تلك لتحرير رسامي الكتب الدانماركيين من الرقابة الذاتية المضنية, بل كعنصر مهمّ في حملة واسعة للتحريض على الحقد والكراهية.

دليل آخر لغياب الترابط المنطقي: لماذا مماثلة رسومات تهدف إلى التهكم من ديانة معينة بالإرهاب؟

لقد أنيطت مهمة تنظيم مباراة الرسومات الكاريكاتورية إلى المسؤول عن الملحق الثفافي للجريدة "فليمنغ روز". والرجل يعرّف نفسه كـ"يهودي صهيوني" ويستحلّ ما يقال عن الـ"جيلاندز بوستن" فيما يخص مناصرتها للنازية والفاشية خلال سنوات الثلاثينات والأربعينات. ولقد فضل "فليمنغ" الفرار إلى الولايات المتحدة عوض الإستغاثة بشرطة بلاده حين تلقى تهديدات بالقتل جراء نشر الرسوم الكاريكاتورية موضوع النقاش.

تجدر الإشارة أيضا إلى أن "فليمنغ" هو أحد الأصدقاء المقربين لمنظّر المعاداة للإسلام "دانييل بايبس". إذ يتناول "روز", في مقال بتاريخ 29 أكتوبر 2006, حوارا دار بينه وبين "بايبس" ويعلن بصوت عال دعمه لنظرياته. ومما جاء في مقاله أن: " بايبس يتعجب من غياب إنذار أكثر قوة في أوروبا لمواجهة التحدي الذي يمثله الإسلام بالقياس إلى الخصوبة وإضعاف الهوية التاريخية والثقافية".

يذكر أيضا أن "دانييل بايبس" هو صاحب المقولة الشهيرة: " ليس كل المسلمين بإرهابيين, لكن كل الإرهابيين مسلمون". وبناءا على القاعدة هذه, فإنه بنادي برقابة بوليسية منهجية على جميع المسلمين في الولايات المتحدة وأوربا. غير أن آخر منشورات "روز" تذهب أبعد من ذلك بكثير, إذ توحي بأن كل المسلمين إرهابيين بالقوة.
"ميريت إلدروب", مديرة جريدة الـ"جيلاندز بوستن", هي زوجة "آندرز إلدروب" مدير الشركة الوطنية للهيدروكربون "دانيش أويل أند ناتشرل غاز". ولقد دأب السيد "إلدروب" ومعه الوزير الأول الدانماركي, منذ خمس سنوات, أي مباشرة بعد وصول التحالف الليبرالي-المحافظ إلى الحكم, دأبا على المشاركة في الإجتماعات السنوية لمجموعة "بيلدربورغ". وهو ناد خاص منبثق من حلف الشمال الأطلسي, الذي يدعو إليه ويسلّح فيه رسل أمريكا في القارة الأوروبية.
فمنذ حرب الخليج الأولى عام 1991 وهجمات الحادي عشر من سبتمبر2001 ومكاتب الحلف السالف الذكر بصدد توسيع دراساتها عن العدو الداخلي. فكيف لا والضواحي الأوروبية التي تمّت أسلمتها أصبحت وجاراً للإرهابيين. غارقين في البيئة تلك, لم يعد "روز" ولا "ميريت إيلدروب" يرى في المسلمين أكثر من إرهابيين محتملين.

الدليل الثالث لغياب الترابط المنطقي: لماذا توانى الوزير الأول في قبول أوجه الوساطة التي كانت ممكنة حينها؟

إن "أندرياس فوغ راسموسن" ليس فقط بالذي كتب "فرا سوسيالستات تيل مينيمالستات" (من النظام الإشتراكي إلى النظام الأدنى), بل هو بالخصوص الإبن الروحي لـ"إيف إلمان يونسن", الرئيس الأسبق لحزبه. وهو الذي كان ولوقت طويل رجل واشنطن في البلاد. ولقد بلور, كوزير للخارجية ونائبا للوزير الأول ما بين 1982 و1993, مذهبا أطلق عليه إسمه والذي بموجبه يستطيع بلد صغير كالدانمارك لعب دور كبير على الساحة الدولية عبر فتح المنافذ أمام الولايات المتحدة. كما نجح في إقناع الرأي العام الدانماركي بالمشاركة في حرب الخليج عام 1991. كما كان وراء اعتراف بلاده قبل أي بلد آخر باستقلال دول البلطيق, وهو ما نجم عنه تشتت الإتحاد السوفياتي وانحلال المعسكر الشرقي.
في العام 1995 تقدم بطلبه للسكريتارية العامة لحلف الشمال الأطلسي, غير أن "جاك شيراك" فاز عليه بجدارة واستحقاق, مبرزا تبعية "إلمان يونسن" الصارخة لواشنطن.
لقد إستخدم "فوغ راموسن" مدهب "إلمان يونسن" كحصان طراودة للولايات المتحدة الأمريكية. هكذا, وبعد أن ضمن الرئاسة الدورية للإتحاد الأوروبي في الدورة الثانية 2002, سهر على تحضير الإتفاقات السرية بين الإتحاد والولايات المتحدة في إطار الأجندة الجديدة لماوراء الأطلسي. الإتفاقات التي تم التوقيع عليها في 22 يناير 2003 والتي سمحت باختطاف وحجز وتعذيب المشتبه بهم داخل الإتحاد من طرف جهازي الـ"سي آي إي" والـ"إم آي سكس".
وحسب تقرير للمجلس الأوروبي, فإن عمليات الخطف والحجز ثم التعذيب, تضاعفت بشكل كبير خلال السنوات القليلة الماضية. إذ تم التعرف على أكثر من مائة ضحية, أغلبيتهم من المسلمين.

في الوقت ذاته, أصدر السيد "راسموسن" على أعمدة جريدة الـ"تايمز" اللندنية مقالاً مشتركا مع سبعة من رؤساء الحكومات الأوروبية الأخرى في محاولة لإشراك الإتحاد في الحرب على العراق. قبل أن ينتهي إلى البعث بحوالي 500 جندي للإسهام في احتلال بلاد الرافدين. وحين تم التأكد من خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل, إتضح أن "آندرس فوغ راسموسن", على غرار "بوش الإبن" و"بلير’’, كذب على مواطنيه قصد إقناعهم بضرورة إشراك بلاده في الحرب تلك.

كما أن كتابا أصدره الصحافي "توغر سيدنفادن" (هو نفسه عضو في مجموعة "بيلدربورغ") والمؤرخ "رون إنغلبرت لارسن", بناءاً على 400 وثيقة رسمية, يبرز بأن الوزير الأول إستثمر كل جهوده لأجل اختلاق الأزمة. هكذا كذب على الرأي العام الدانماركي مقنعاً إياه بأن سفراء الجامعة العربية يطالبون بفرض رقابة دينية حين سعوا إلى لقائه.
أما الهيئة الأوروبية ضد الميز العنصري (تابعة للمجلس الأوروبي وليس للإتحاد الاوروبي) فلقد عبرت في تقريرها السنوي حول الدانمارك عن " قلقها الكبير" حيال انتشار "جوّ من عدم التسامح وكره الأجانب بخصوص اللاجئين السياسيين وطابة اللجوء السياسي, ثم الأقليات بشكل عام والمسلمين بشكل خاص". وهي تحمّل مسؤولية الوضع ذلك للوزير الأول والحزب الشعبي الدانماركي, الموالي للتحالف الحكومي. كما أدانت الهيئة الأوروبية التساهليّة في تطبيق القوانين الكفيلة بردع الميز العنصري.

والحال أن الوزير الأول لم يكن يرغب في وضع حدّ لأزمة الرسومات الكاريكاتورية لأنها تخدم مصالحه السياسية عبر تعميق الهوة بين الحضارات. كما أن ارتفاع حدّة التوثر كانت تقوّي موقعه داخليا بتواز مع الإستراتيجية الدولية لحلفائه. صحيح أن مقاطعة المواد الدانماركية أضرّت باقتصادها, غير أنه مما لاشك فيه أيضا أن الولايات المتحدة لابد وأنها عوضتها عن الخسائر تلك.

الدليل الرابع لغياب الترابط المنطقي: بما أن الرسومات الكاريكاتورية تلك كانت غاية في الرداءة, حتى أنها أثارت إحتقار الناس أكثر منه غضبهم, فكيف يعقل أن تهيج العالم الإسلامي أكثر ممّا فعله احتلال فلسطين وغزو أفغانستان والعراق, ثم قنبلة لبنان؟

مباشرة بعد نشر الرسومات الكاريكاتورية, إجتمعت المنظمات الإسلامية في الدانمارك لبلورة ردّ فعل مشترك. إذ سارعت إلى تقديم شكوى بالشتم (البند 140 من القانون الجنائي الدانماركي) والدعوة إلى الحقد والميز العنصري حيال مجموعة من الأشخاص بسبب انتمائهم العقائدي (البند 266 .ب). وبتواز مع هذا الإجراء الجماعي, بادر عدد من المشاركين في هذا التجمّع إلى تنظيم مظاهرات أمام سفارات الدول الإسلامية في كوبنهاغن, بقيادة إمام الجمعية الإسلامية في الدانمارك أحمد أبولبن" , وزميله "أحمد عكاري", الذين عيّنا أنفسهما متحدثين باسم هيئة أوروبية للدفاع عن النبي. الهيئة التي تم تأسيسها لهذه المناسبة. فكان هدف الإمامين توسيع الحوار ليشمل كلّ جوانب الميز العنصري التي يعاني منها المسلمون في الدانمارك. ولبلوغ هدفهما, قاما بتحضير ملف من 43 صفحة مرفق برسومات كاريكاتورية تضمنت تلك التي نشرتها الـ"جيلاندز بوستن". "

والحال أن "ملف عكاري" كان يحوي أيضا رسوما أكثر إهانة من تلك التي نشرتها الـ"جيلاندز بوستن". حيث تضمن مثلا رسما لمسلم ساجد يصلّي وكلب من خلفه يتلوّط به. ولقد كان هذا الملف كافيا لتعبأة العديد من السلطات العربية والإسلامية, مدنية كانت أو دينية. خاصة وأن مضامينه هي التي أقنعت الرأي العام المسلم بأن الرسوم الكاريكاتورية تجسد الرسول محمد.
كما باشر "أبولبن" و"عكاري" جولة دولية إلتقيا خلالها بالأمين العام للجامعة العربية والمفتي الكبير للقاهرة ومدير جامعة الأزهر ومفتي بيروت والشيخ فضل الله عن حزب الله والكاردينال "سفير" ثم مفتي دمشق.
الرحلة التجوالية تلك كان فيها ما يدعو إلى الدهشة, إذ من المفروض أن " أبولبن" ممنوع من ولوج الإمارات العربية المتحدة و الأراضي المصرية. فالرجل هو واحد من قادة حركة "حزب التحرير" الذي ليس له مكان في قلوب القوميين العرب.

لقد زعم حزب التحرير, مباشرة بعد تأسيسه عام 1953 على يد القاضي الفلسطيني " تقي الدين الأنبهاني", بأن هدفه الأساس هو إرجاع حكم الخلافة العثمانية للهيمنة على العالم العربي واضطهاده. فكان من الطبيعي أن تتصدّ الأنظمة العربية للحركة هذه , التي رأت فيها, خطأً أو صواباً, جماعة من المنوّرين تديرها أجهزة المخابرات البريطانية لضمان سيرورة نفوذها في المنطقة. بعد وفاة مؤسّسها في عام 1977, ورغم أن الحركة تصرّ على مناهضة العنف, فإن برنامجها لايدع من شك في طبيعة نواياها. فهي تتأهّب لإرساء دعائم دولة إسلامية وحيدة تحت السيادة المطلقة لخليفتها, الذي ينوب عنه, عند الضرورة, أمير للجهاد تناط له مهمة تعبأة كل الذكور المتجاوزة أعمارهم 15 سنة لشنّ الحرب على غير المسلمين في العالم أجمع.

تجدر الإشارة كذلك إلى أن مقرّ "حزب التحرير" ليس في إسطانبول كما نظنّ, بل في لندن, حيث تنعم الحركة بحماية بوليسية هائلة رغم أن "توني بلير" يعتبرها منظمة إرهابية. والادهى من ذلك هو أن أهم قادة الحزب المتواجدون في لندن يتقاضون راتباً يضاهي ما يتقاضاه كوادر الشركات الأنجلو سكسونية العابرة للقارات.
كما نجح "حزب التحرير" في زرع البلبلة والإضطراب في مجموعة من مناطق آسيا الوسطى حيث ينشط. غير أن عددا من الأنظمة عبّرت عن تضامنها وشفقتها اتجاه أعضاء الحركة يوم سجنوا وعذبوا على يد نظام "كاريموف" في أوزبكستان. إلا أن هذا لايعني بأنهم كانوا ليكونوا أحنّ من جلاّديهم لو أخدوا بزمام الحكم..
ولم تتأخر دول المنطقة في استيعاب الخطر الذي يمثله "حزب التحرير". فهي تعتبره أداة تتلاعب بها الـ"سي آي إي" والـ"إم آي سكس", على غرار ما فعله المجاهدون الأفغان ضد الإتحاد السوفياتي سابقاً. فلم تجد الدول هذه إذن من خيار أمامها سوى محاربة الحزب السالف الذكر, وهي واحدة من أولويات منظمة شنغاي للتعاون.

التحريض على الكراهية
الرسم الكاريكاتوري على الشمال ( مركز دراسات المشكل اليهودي في بولونيا, 1943), لايجسد النبي موسى بل رجل يرمز إلى الديانة اليهودية حمّلت له مسؤولية إشعال فتيل الحرب العالمية الثانية. أما الرسم على اليمين ( جيلاندز بوستن, 2005), فلا يمثّل الرسول محمد بل رجل يرمز للديانة الإسلامية متهم بالإرهاب, و الذي يرى فيه بوش الإبن " حربا عالمية جديدة ". الرسمين ليست لهما أية علاقة بانتقاد كلتا الديانتين. إنهما كاريكاتورين دعائيين يراد بهما إهانة جماعات مؤمنة بديانة معينة. فالأول كما نعرف جميعا إستخدم في تبرير إبادة جماعية, لكن ما لنعرفه حتى اللحظة هي الغاية من الرسم الثاني؟

التلاعب بالرسوم الكاريكاتورية في فرنسا

كانت جريدة "فرنس سوار" أول من تجرأ على إعادة نشر الرسوم الكاريكاتورية موضوع الأزمة. واليومية هذه, التي كانت حينها في طور الإفلاس, كانت موضوع صراعات عنيفة بين مجموعة من الرأسماليين السّاعين إلى شرائها. أما مستخدميها الذين يقرّرون مصيرها فكانوا تابعين لشخص مجهول لن نعرف إسمه إلا بعد أشهر من ذلك. إذ يتعلق الامر بتاجر السلاح "أركادي غايدماك", رئيس الـ"بيتار" (ميليشيا حزب اللكود الإسرائيلي) ونادي كرة القدم الذي يحمل الإسم نفسه (بيتار), والمرشح لعمديّة مدينة القدس. ويبرّر إخفاء هويته أطول مدّة ممكنة بإصدار أمر اعتقال دوليّ في حقّه بتهمة التهرّب من أداء واجباته الضريبية.

أسبوعاً واحدا بعد ذلك, بادرت جريدة "شارلي إيبدو" بنشر الرسومات تلك. وكما أشار إليه بوضوح "سيدريك أوسي" على أعمدة جريدتنا, فإن الأسبوعية الهجائيّة منهمكة منذ أواخر 2003 في إدانة "الخطر الإسلامي". إذ لم تستحل ّ مشاركة "طارق رمضان" في الملتقى الإجتماعي الأوروبي, وأيّدت منع المسلمات من إرتداء الحجاب, وعارضت السياسة العربية في فرنسا في الوقت الذي تعلن فيه دعمها الكامل للسياسة الإسرائيلية...إلخ.

فبالنسبة لـ"فرنس سوار" كما هو الحال بالنسبة لـ"شارلي إبدو", فإن المطبوعات تلك تطيل حملات إعلامية قديمة العهد في خدمة إيديولوجية المحافظين الجدد بخصوص "صراع الحضارات". ولقد أتبثت فعاليتها بحيث أن الطبقة الحاكمة الفرنسية, في شبه إجماع, تتصنّع عدم إدراكها بالمضامين المعادية للإسلام التي تنضح بها الرسوم تلك. بل أن الأدهى من ذلك هو إعلان الطبقة الحاكمة دعمها وسندها لممارسة حرية التعبير تلك. ولعلّ الرأي المخالف الوحيد للنزعة السائدة تلك جاء على لسان رئيس الجمهورية "جاك شيراك" الذي قالها صريحة: " إن فرنسا, بلد العلمانية, تحترم كل الديانات والمعتقدات".

وإذا ذهبنا بعيدا في المكر والرياء, وجدنا أن "شارلي إبدو" هي المسؤولة عن نشر "لومانفيست د دوز" (منشور الإثناعشر). المنشور الذي توصف فيه الديانة الإسلامية كنزعة كلّيّانيّة جديدة تتنافر مع حرية التعبير. ومن بين الموقعين على المنشور نجد, زيادة على "فيليب فال" رئيس جريدة "شارلي إبدو", كلاًّ من النائبة الهولندية "أيان حرصي علي" والصحافيان "كارولين فورست" و"أنطوان سفير", ثم كاتب المقالات "بيرنارد هنري ليفي".
وكرد فعل منها على ما وقع, بادر مسجد باريس واتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا إلى رفع دعوى قضائية على جريدة "شارلي إبدو". غير أن مجموعة من المرشحين للرئاسة الفرنسية سارعوا لتقديم دعمهم للجريدة باسم "حرية التعبير". تقدمتهم المرشحة "كورين لوباج" و"دومينيك فويني" عبر التوقيع على العريضة. تلاهما "فرنسوا بايرو" و"فرنسوا هولاند" الذين حضرا شخصياً إلى المحكمة يوم افتتحت الدعوى القضائية. أما الرئيس "جاك شيراك" الذي سبق وأن أعرب عن سخطه حيال ما حدث, فلم يعبر عن موقفه من جديد, غير أنه بعث بمحاميه الخاص للدفاع عن الطرف المشتكي, أي مسجد باريس واتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا. أما الحكم النهائي فلن يعرف قبل 15 مارس 2007.
ولايفوتنا التذكير بالدور الخاص الذي لعبه المرشح للرئاسة "نيكولا ساركوزي" في هذا القضية. فبعد إعادة نشر الرسوم الكاريكاتورية في فرنسا, رفض كوزيرا للداخلية اتخاد إجراءات الملاحقة القضائية, ونصح الجمعيات العضوة في مجلس مسلمي فرنسا بأن تتكفّل ذاتها بهذا الأمر. قبل أن يفاجئها ببعثه شخصياً برسالة لمحاميي "شارلي إبدو" يعلن فيها صراحةً دعمه للجريدة. وهو ما كاد يدفع بأعضاء مجلس مسلمي فرنسا إلى الإستقالة دفعة واحدة.

شتم أم تحريض على الحقد والكراهية؟

رغبة منّا في إلقاء الضوء على جميع جوانب القضية, نضع صوب أعين القارئ الكريم السم الكاريكاتوري الذي أشعل نار الفتنة أكثر من غيره. الرسم يمثّل رجلاً
يضع على رأسه عمامة عبارة عن قنبلة. فالرجل هذا, حسب صحيفة الـ"جيلاندز بوستن", هو النبي محمد و الكاريكاتور يتهكّم من المتطرّفين الذين يستندون إلى الرسول من أجل تبرير أعمالهم الإرهابية. والحال أننا نستطيع قراءة عبارات التوحيد "لاإله إلا الله محمد رسول الله" على العمامة. وهو ما يجعلنا نقول بأن الشخص المرسوم لايمكنه في أي حال من الأحوال أن يمثّل الرسول محمد ذاته, بل شخص مسلم رمزيّ. والغاية من العمامة-القنبلة هذه هي قرن صورته وصورة الإرهابي.

إن الرسالة التي يحملها الرسم الكاريكاتوري تصم بالعار كل المسلمين وتمثّل نداءاً للحقد والضغينة, وهو ما يعاقب عليه القانون عادة في عامّة المجتمعات الدموقراطية. فمن الخطأ إذن أن نتحدث عن "كاريكاتورات محمد" حين يتعلق الأمر بكاريكاتورات تمسّ المسلمين جميعاً.

في الوهلة الأولى, لم نشكّ المحكمة قطّ في أن هذه الرسومات الكاريكاتورية لاعلاقة لها بانتقاد ديانة معيّنة, ولكنها إهانة وقذف في حق مجموعة من الأشخاص قاسمهم المشترك الوحيد هو انتماؤهم الديني. في الواقع أن المحكمة رفضت دعوى قضائية تقدمت بها جمعية دينية للدفاع عن المسلمين, قبل أن تقبل تلك التي تقدم بها مسجد باريس واتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا, باعتبار أن النظام الأساسي للهيئتين الأخيرتين يقضي بالدفاع عن حقوق المنتمين إليهم كمتقاضون وليس كمؤمنين بديانة معينة. بيد أن رئيس المحكمة, في وقت لاحق, ترك النقاش يأخد منحى آخر كما لو أن الأمر يتعلق بحرية انتقاد الديانة الإسلامية.

يتضح ممّا سبق أن جميع أبطال القضية التي أمامنا تعمّدوا الكذب بشكل أو بآخر ( الـ"جيلاندز بوستن" بخصوص مقاصدها, والوزير الاول الدانماركي فيما تعلّق بمطالب السفراء العرب, والجمعية الإسلامية في الدانمارك حول طبيعة الرسوم الكاريكاتورية, ثم "أبولبن" بصدد التزامه السياسي). كما رفع الحجاب عن حقيقة مفادها أن روابط وثيقة تجمع بين أولئك الأبطال أنفسهم والإدارة الأمريكية, أي المشجّع والدّاع الأول إلى "صراع الحضارات".

ترجمه خصيصا لشبكة فولتير: حكيم إدلسان
جميع الحقوق محفوظة
2007 ©