حتى سبع سنوات خلت، لم أكن قد طرحت بجدية السؤال حول ما يعنيه لي أن أكون امرأة، سارت في مسار التحجيم والتقزيم لخصائصها الأنثوية، وعرفت تماماً أنها رهينة لأعراف صاغت ما صاغته من سيادة وعلو للذكورية، لتتفشى بذلك سلطة الرجل في المجتمع، وكأن الذكورية مرادفة للإنسانية في حين أن الأنثوية مازالت مشوهة بلا معالم واضحة، إذاً لماذا هذا السؤال الملح الآن؟

ألم أمض عشرين عاماً دون أن أتلفظ بكلمة واحدة.. دون أن أعترض على كل ما يفرضه المجتمع من قيود تخنقني كباقي النساء؟ ألست أنا من يجد في الرجل السيد والحامي أيضاً؟ وأنا الطفلة التي مازالت تتذكر كيف تحول إنجاب والدتها لفتاة ثالثة إلى مأتم شاركت فيه عجائز القرية واللواتي تحولن في لحظة واحدة إلى كورس يردد ما تتلفظ به جدتي من ندب كان يلح بأن مصيبة ما قد حلت بنا، إذاً أصبحنا الآن ثلاث فتيات وبينهن صبي وحيد، تمنت جدتي لو أن رحم والدتي احتوى صبياً ينقذنا مما نحن فيه، في تلك اللحظة لم أفهم سبب حزن جدتي في حين أن معالم وجه والدتي كانت توحي بأنها ارتكبت إثماً لا يغتفر، وبالتالي فإنني لم أجد مهرباً سوى الانزواء في ركن مظلم بينما مخيلتي الطفولية تعجز عن إيجاد إجابة لكل ما يحدث.

كنت أعرف أن الموت وحده يستدعي كل هذا الحزن فما تفوهت به جدتي من أغان سمعتها مراراً بينما (الميت) يدفن في غابة خصصها أهل قريتنا لدفن موتاهم، ولكن أختي ولدت منذ ساعتين وهي حية ترزق، ولم تكن إلا سنة واحدة حتى تغير المشهد بأكمله.. أمي أنجبت صبياً.. وجدتي ترقص فرحاً..

وأهالي القرية يتدافعون للمباركة بالمولود الجديد وأكل الحلوان (بسكويت وراحة) فأخيراً أخي لن يبقى وحيداً، (لولا الصبي لما اضطرت كنتي لإنجاب ثلاث بنات، الله يقطع البنات واللي بيخلفهم) دون أن تهتم لوجودي بجانبها، ولم أفهم سبب هذا الحقد على كل امرأة تنجب أناثاً، كنت بحاجة لتفسير منطقي لكل ما يحدث، ولكن أي منطق هذا إذا كان أحد رجال القرية طلق زوجته لأنها لم تنجب صبياً..

كل ما عرفته هو أن الصبي وحده صاحب الحظوة وتمنيت لو أني خلقت صبياً لجنبت والدتي ما تحملته من لوم حتى رزقت بصبي، ولكن أنا أنثى في قرية تكره الإناث، وكنت أمني نفسي بأن العالم سيكون مختلفاً بعيداً عن قريتي النائية الصغيرة، هناك في المدينة حيث لا فرق بين ذكر وأنثى كما تخيلت، أو كما تيقنت بأن يكون! وربما كان هذا سبب إصراري على رؤية المدينة للمرة الأولى واستكشافها واستكشاف شخوصها، في البوسطة الوحيدة والتي تأتي صباحاً إلى قريتنا لتقل الركاب إلى المدينة جلست بجوار والدتي مع توصيات كثيرة بأن أكون فتاة مؤدبة وإلا ستحرمني من مرافقتها مرة أخرى، وما هي سوى ساعة واحدة حتى وجدت نفسي أمام كتل أسمنتية كبيرة وشوارع عريضة، بدا كل شيء غريباً ومختلفاً عن قريتي، وبهذا فإن هيئة النساء المختلفة وطريقة لباسهن جعلتني أوقن بأن كل ما توقعته كان صائباً، لكن جدتي التي أزورها للمرة الأولى بدأت باسترجاع لحظة ولادتي، وكيف أن الجميع صعق لمجرد المعرفة بأن المولود ليس ذكراً، ولكن الكارثة كانت بولادة أختي الصغيرة، ولم أعلق كثيراً على كلام جدتي (رغم أنها تقطن في المدينة) ولكنها كانت تتكلم بنفس الحدة التي تكلم بها أهل القرية عندما يتعلق الأمر بالصبي والبنت، وفضلت الوقوف أمام باب البيت لأراقب السيارات والمارة. امرأتان تجاوزتا الثلاثين عاماً تتحدثان بصوت مرتفع (يا حرام بعد خمس سنوات من العلاج أنجبت بنتاً) وكان هذا الكلام كافياً لأعرف أن ما بدا للوهلة الأولى مختلفاً بالنسبة لي كان متشابهاً إلى حد كبير مع قريتي الصغيرة، لتخيب آمالي مرة أخرى، فزيارتي القصيرة لبيت جدتي جعلتني أسلم بأن ما تعاني منه المرأة لا علاقة له بقرية أو مدينة، وإنما هو قدر محتوم لامرأة تعيش في مجتمع، يصنف الرجل والمرأة على أساس الأعلى والأدنى، وإلا لماذا تحرم المرأة في قريتي من كل شيء، حقها في الميراث وحقها في اختيار شريك حياتها، وتعامل كمخلوق أقل من الرجل يتوجب عليها العمل بشكل متواصل دون رحمة أو شفقة، ولكن أكثر ما كان يثير تحفظي هو جدتي ووالدتي اللتين ترفضان كمعظم النساء إنجاب الإناث، هل يعقل أن تكون المرأة عدوة نفسها، وكان لابد من مواجهة طال تأجيلها بيني وبين جدتي، لعلني أحصل على إجابة شافية فيما يخص كرهها للنساء، وما أن تفوهت بكلمة واحدة حتى أتت الإجابة (هل تتوقعي أن نحبك كما نحب أخاك) عليك أن تعرفي أنك ضيفة في هذا البيت وستصبحين يوماً ما على ذمة رجل غريب، ثم من يجلب العار ويدنس الشرف سوى النساء والبيت الذي لا يوجد فيه صبي لا خير فيه، إجابة جدتي والتي أعتقد أنها تلخص وجهات نظر العديد من النساء جعلتني أستعيد تفاصيل ثمانية وعشرين عاماً أمضيتها بينما كل شيء من حولي يذكرني بأنني في مرتبة أدنى من الذكر، هذا بالضبط ما جعل عائلتي بأكملها قبل سنة تقريباً تبتهج لمجرد معرفة أن أختي الكبيرة ستنجب صبياً، بينما كلمات جدتي تتردد في مسمعي (الله يلعن البنات واللي بيخلف البنات)!