أبيض وأسود - لم أعرف سبب ولعي بمجالسة تلك المرأة المجنونة التي يصر سكان قريتي على الابتعاد عنها، واستخدامها كوسيلة لبث الرعب في قلوب أطفالهم والتهديد بإحضارها لضربهم في حال رفضوا تنفيذ ما يطلبونه منهم، (فوزية) المجنونة كانت امرأة مسالمة رغم مظاهر الجنون الواضحة عليها، وأجدني الآن أسترجع كل ملامحها الجميلة وجهها الأسمر وشعرها الأسود، بينما لا تبارح مكانها المعتاد تحت شجرة البلوط الموجودة أمام بيت أهلها، وبصراحة كانت هذه المرأة تبعث الطمأنينة في قلبي بعكس كل ما يشاع عنها من قصص بشأن ضربها لهذا الطفل أو ذاك، وكنت متيقنة بأنها تحمل في داخلها شخصاً نبيلاً ووديعاً لم ينجح الجنون في إخفائه، وما هي عليه الآن ليس سوى نتاج لرقة مشاعرها، وإلا لماذا يتحدث الجميع عن جمالها ورومانسيتها عندما كانت في العشرين من عمرها، ومراراً حاولت تبادل أطراف الحديث معها لكن عبثاً لتأتي إجاباتها مفككة وغير مترابطة، وبصراحة كانت هذه المرأة بالنسبة لي لغزاً يصعب حله، تارة أشفق عليها، وتارة أحسدها، وتارة أشفق على نفسي فأنا امرأة مثلها وأعاني ما تعانيه، حتى أتت اللحظة التي تمكنت فيها من معرفة سبب جنونها.

فوزية بنت العشرين عاماً أرسلها أهلها للعمل عند أحد الخواجات في لبنان ولشدة جمالها فتن بها ابنه، وتقدم لخطبتها، ولكن طلبه قوبل بالرفض فهو مسيحي وهي مسلمة، فأصيبت بالجنون، وبهذا فإن معرفتي بتفاصيل القصة جعلتني أجد طرف خيط يمكنني من التواصل معها، وكعادتي جلست على الحجر المقابل لها، أما هي فقد آثرت الصمت، واكتفت بالنظر إلى وجهي بينما ابتسامة تعلو شفتيها. وكنوع من التحايل أخبرتها بأن والدي يرفض زواجي من الرجل الذي أحب، وبمجرد سماعها لما تلفظت به من كلمات تغيرت ملامح وجهها، وكانت هذه المرة الأولى التي أحصل منها على إجابة شافية منها: (إذا كنت تحبينه فلا تترددي بالهروب معه) لتعود مرة أخرى وتتحدث عن غلاء السكر، وبرودة الطقس علماً أننا كنا في فصل الصيف، وقتها طلبت مني مرافقتها إلى غرفة صغيرة في بيتهم البسيط لتفتح صرة من القماش خبأت فيها صورتها وهي شابة، وبصراحة كان كل الوصف السابق لجمالها أقل بكثير مما تعكسه الصورة، بعدها عادت أدراجها إلى مكانها المعتاد لتواصل أحاديثها المعتادة، فهي لا تتوقف عن الكلام إلا ما قل وندر، زياراتي المتكررة لـ(فوزية) كانت تثير غضب عائلتي بكاملها ومنعت بعدها من رؤيتها أو الحديث معها، وبهذا فإنني اضطررت لزيارتها بشكل سري دون علم أحد، شعور خفي كان يشدني لتلك المرأة حتى بت لا أستطيع الانقطاع عن رؤيتها لفترة طويلة، وفي كل مرة أراها فيها يطاردني سؤال ملح عما إذا كان الحب إثماً يستوجب العقاب، وهل يعقل أن تصاب امرأة بالجنون لأنها حرمت من الرجل الذي تحب؟ أليس الحب عاطفة نبيلة فلماذا نعاقب عليها بهذا الشكل؟ أم أن الحب أيضاً لم يسلم من أعرافنا التي أوجدناها لتقتل كل شيء جميل بداخلنا؟ مرة بحجة الدين ومرة بحجة العرف.. مع دعاء بأن لا أجد نفسي في امتحان مشابه، فأنا أيضاً امرأة من هذا المجتمع قد تصاب بالجنون.. وقد تخسر من تحب لكنها لا تملك الجرأة لقول كلمة لا في وجه عائلتها!

زائر غريب:

الحكاية هذه المرة كانت مختلفة تماماً، فالمرأة التي طرقت باب بيتنا في الساعة الثامنة والنصف ليلاً امتلكت من الجرأة ما يكفي لاتخاذ قرار بالهرب مع الرجل الذي أحبت، وهاهما يبحثان عن مكان يختبئان فيه خوفاً من غضب عائلتها، كانت ترتدي صليباً في رقبتها وترتجف من شدة البرد، أما زوجها وحسب ما روى لنا فقد طلبها من أهلها لمرات عدة، ولم يتركوا أمامه خياراً آخر سوى الزواج منها بشكل سري والابتعاد عن المدينة وعدم العودة إليها مرة أخرى لأنهما وببساطة سيقتلان في حال تم العثور عليهما، ومع هذا قررا أن يتحدوا أعراف مدينتهم فبرأيه لا فرق بين مسيحي ومسلم، وبعد الانتهاء من العشاء خلدا إلى النوم ففي الصباح سيكملان رحلتهما إلى مكان آخر، ليغضب جدي (رحمه الله) بمجرد معرفته باستضافتنا لهما معتبراً أن هذه المرأة تستحق الذبح على الإثم الذي ارتكبته طالباً من والدي طردهما على الفور، فامرأة مثلها وضعت رأس عائلتها في الوحل لا تستحق أن يكرمها أحد، مع إقرار من قبله بأنها ستلقى مصيراً بائساً مستشهداً بأربع فتيات من قريتنا تزوجن رجالاً مسلمين وأصبن جميعهن بمرض خبيث أودى بحياتهن، فهذا هو عقاب الله على فعلتهن هذه، حتى زوجها سيتخلى عنها بعد فترة قصيرة لأنه وببساطة لا يوجد أحد يحترم امرأة تخلت عن دينها لأجل رجل (فالغنمة التي تخلت عن قطيعها تضيع).

غنمة وقطيع هذا هو حال المرأة في مجتمعنا، هكذا كان يراها جدي والآخرون، غنمة عليها ألا تحاول الابتعاد عن قطيعها وإلا فإنها ستعاقب أشد العقاب حتى لو كان الفعل الذي ارتكبته هو بدافع الحب، أما أنا فمازلت حتى الآن أتردد لزيارة (فوزية المجنونة) في كل مرة أسافر فيها لقريتي النائية، لأجدها وقد ازدادت سمنة بينما رائحتها لا تحتمل، أما الآن فأستطيع أن أجد سبب ولعي بها.. أنا أشبهها.. مثلها جبانة أيضاً.. إنها قطعة من قلبي، ذلك القلب الذي قد يخفق يوماً ما دون أن يجرؤ على الاقتراب ممن يحب.. لأنه يعرف مسبقاً أن الجنون لن يغفر له فعلته هذه!