لم يكن وداعا لأيام حفرتها "احتفالية حلب" في الذاكرة، فعام كامل كان أشبه بلون بانورامي تجاوز حدود الدهشة، ليتركني في حلب أنبش داخلي وأتعرف على صورة المدينة كما أتخيلها أو كما ستصبح مستقبلا... فأستطيع "صب" الانتقادات على "مناسبة" مرت بسرعة دون أن تترك تفاصيل، ولكنني أمام المدينة سأقف أيضا لأدرك صعوبة اختصار التاريخ في عام، أو "كتابة" حلب بشكل احتفالي فقط.

أحببت المدينة قبل أن تصبح عاصمة للثقافة الإسلامية، وسأعشقها بعد انتهاء المناسبة، لكنني أيضا سأحاول ان ألون "التحرك" الذي راقبته في المحاضرات والمعارض أو ربما في الحفلات الفنية، لأنني بالفعل كنت أحاول البحث على مدار العام عن صور جديدة لـ"عاصمة الثقافة الإسلامية" فلا يواجهني إلا تقليدية الحياة التي رفضتها أحياء حلب بشكل دائم.. فأحاول إعادة رسم السؤال الذي واجهني منذ اليوم الأول للاحتفالية: هل يمكن البحث عن حلب الإسلامية بشكل مطلق؟ وهل يمكن اختصار أكثر من "خمسة آلاف عام" من انتعاش الحضارة بوضع "سور زمني" حول مكون ثقافي وحيد...

في حلب لا يمكن فصل التتابع الزمني الذي يغلف المدينة رغم "الطابع" الإسلامي لأوابدها، ولا يمكن أيضا نسيان مساحات التاريخ الواسعة، رغم أن الإنجاز الحاضر اليوم هو لمراحل متأخرة من تاريخ المدينة.. وفي حلب أيضا صور كثيرة شكل ثقافتها "الإسلامية"، هذا إذا تجاوزنا كل الخلافات في مسألة "الثقافة" وعلاقتها بالماضي والحاضر... فالمسألة ليست زمنا واحدا يظهر فجأة داخل حلب، وهي أيضا تتجاوز الأوابد التاريخية الحاضرة بقوة اليوم، فالمدينة في النهاية هي هوية متطورة تنتمي لكل الأزمنة التي مرت على الناس والأحياء.

عندما أعتذر من حلب فلأن احتفاليتها لم يكن ينقصها سوى "حيوية المدينة" المكتسبة من امتدادها التاريخي" او من طموحها المستقبلي.. وعندما أعشق حلب فلأنها صورة لسورية أو حتى لعمق يلازم كل مدينة تفرح بتعاقب الحضارات بدلا من التوقف أو الانسحاب إلى الظل، وإلى الانكفاء ورفض الآخرين.. فأعتذر من حلب لأننا لم نترك حرية التعبير تأخذ مداها خلال الأيام الماضية، ولم نستطع أن نقرأ المدينة كي نصور فرحها بشكل كامل في مناسبات ترسم ذاكرة إضافية داخل المدينة والمجتمع.

كانت احتفالية حلب صورة ناقصة لما نريده أو لما تريده المدينة، فأنا أخاطبها بصورة الموجود والمستمر الذي يتكامل مع شعوري، وكأننا أمام عاشق أو أنثى مفتونة، فما حدث بالفعل أن حلب هي التي احتفلت بنا ونحن حاولنا.. لكنني لا أعرف إذا كنا قدمنا كل ما نريده لها.. أم أننا وقفنا دون قدرة المدينة على استيعاب صورة تاريخية واحدة من مدينة أتعبت التاريخ.

شكرا لحلب لأنها أيقظتني.. وربما حولتني إلى طيف تاريخي.. ثم كتبتني مستقبلا ينتظر الظهور.. وعذرا من تكامل صورها لأننا لم نستطع أن ندخل إلى كل الوان الطيف التي شكلتها على امتداد العصور، فحلب ليست صفحات يمكن قراءتها كدرس تاريخي لأنها تحمل كل إمكانيات الحياة أو حيوية التحول بين الأزمنة، وتجاوز المألوف في رسم المساحات التي نريدها في أي ثقافة دخلت إلى المدينة ولم تخرج منها.

ما ينقص الاحتفالية هو "نحن".. من شكلتهم المدينة على صورتها حتى ولو لم يعيشوا فيها .. أو من رسمتهم وهم يقفون في أزقتها ليكتبوا استمرارها وبقاءها أكثر من ذاكرة.. "نحن" كنا الغائبين عن صور المدينة عبر عام كامل، فلم نستطع أن نضع الصورة الأعمق من الاستعراض التاريخي، أو من الاحتفاء بالعلماء الذين ننتمي إليهم مثلما تنتمي المدينة.. فكنا غائبين وكأن حيوية عام كامل ليست كفيلة بتحريك ما بداخلنا، وغرقنا في تنظيرات الهوية والثقافة، محاولين إرجاع حلب إلى عهد "السفسطة" بمعناها الارتجالي، فلم يمر يوم دون أن ننبش في النقد أو ننقد النبش المعرفي في المدينة.. وربما توصلنا لعدم وجود ثقافة بالمعنى الذي يتم به الاحتفال!! لكننا بقينا غائبين... والمدينة لن تذكر أن "احتفالية" ظهرت وكانت ناقصة.. لأنها ستقف عند فشل من يرون حلب ثم يتلهون بالوقوف دون الحب أو دون الثقافة.. أو دون القدرة عن وضع صورة إضافية لما شهدته المدنية خلال عام.