هل مازال يمكننا اللحاق بقاطرة الاقتصاد الرقمي؟ أم أن سوريا قد فقدت فرصتها؟ وما هي احتمالات اللحاق بالركب؟ وما هي القرارات التي يجب أن يتم اتخاذها في هذا المجال؟

هل الاقتصاد الرقمي أحد خياراتنا؟
قبل سنوات كنا نتحدث عن فرص سانحة في مجال اقتصاد المعرفة، ثم أصبحنا نتحدث عن فرص يجب اللحاق بها، والآن ربما يجب أن نبحث في إمكانية وضع خطة طوارئ للحاق بركب الاقتصاد الرقمي، وإنني أخشى أن نتحدث بعد بضع سنوات عن نعي للفرص التي أضعناها. وبالتالي ربما أصبح من المفيد التساؤل فيما إذا كان هناك من بقي يعمل وفقاً للاستراتيجية المعلوماتية التي تم وضعها قبل عدة سنوات، أم أن الجهات التي عارضتها في حينه قد فرضت البديل الذي نلمسه حالياً.

كما يبين المخطط المرفق، والذي هو عبارة عن أحد المخططات التي تم عرضها أثناء طرح الاستراتيجية المعلوماتية (عام 2004)، فإن الاستراتيجية قد وضعت في عام 2008 هدفاً وقدره 2 مليون مشترك في الإنترنت، وتحدثت عن ضرورة وجود خدمات إنترنت سريعة، وعن ضرورة انخفاض في أسعار خدمة الإنترنت العادية، وهنا أكرر العبارة الواردة في الشكل المرفق كما هي (لا اقتصاد ومجتمع رقميان دون إنترنت واسعة الانتشار)، وبما أن الإنترنت مازالت في وضعها الحالي لدينا (انتشاراً وجودة خدمة ونوعية خدمة)، فمن المنطقي أن نتحدث عن ضياع الفرصة بعد ثلاث سنوات من إطلاق الاستراتيجية، وذلك دون أن نحقق أي شيء مما كان يجب تحقيقه. وأعتقد أنه ما لم نحلل أسباب الفشل الأكيد في السنوات الماضية لن نتمكن من معالجة المشكلة قبل فوات الأوان.

مشكلة البلدية المعلوماتية:
ربما من المفيد التفكير في سبب وصولنا إلى هذا الوضع المتردي من حيث جاهزيتنا الرقمية، فقد ابتعدنا عن الأهداف التي وضعناها نحن، والتي اعتبرت متواضعة بالمعايير العالمية في حينه، وأعتقد أن السبب يكمن بشكل رئيس في نظرتنا لقطاع الاتصالات (حكومات وأفراد)، إذ يبدو أننا لا نتعامل مع هذا القطاع بالجدية المطلوبة، وقد يعود السبب الرئيس لتأخير عملية تنظيم قطاع الاتصالات إلى تاريخه، وانعكاس ذلك فوضى في طريقة عمل هذا القطاع، وهنا يمكن تشبيه الأمور بالمتعهد الذي يعتبر أنه عندما يشق طريقاً يعتبر أن الطريق قد أصبح ملكاً له، وأن تكليفه شق الطرقات في مدينة ما يسمح له بالتصرف كبلدية أحياناً وكسلطة تشريعية في أحيان أخرى! وربما انطبق هذا الواقع على كل من مشغلي الهاتف الثابت والهاتف الخلوي في سوريا، الذين قرروا أن تشغيلهم للبنية التحتية يعني تحكمهم بطبيعة ومستوى الخدمات التي يمكن تقديمها، ويبرز هذا الموضوع بوضوح من طريقة تعامل المؤسسة مع خدمات الشبكة الذكية ( حالياً)، ومن طريقة تعامل شركات الخليوي مع الخدمات المضافة على شبكة الخليوي، وفي كلتا الحالتين أدى ذلك لعدم قدوم استثمارات (خدمات رقمية جدية) في هذه المجالات، وإنني أخشى أننا اليوم سنكرر الخطأ نفسه، ولكن في مجال تبادل المعطيات (الخدمات المضافة على شبكة الإنترنت)، مما يؤدي فعلياً لإغلاق الحلقة بشكل كامل.

المؤسسة العامة للاتصالات وشبكة تبادل المعطيات:
مازالت فصول قضية شبكة تبادل المعطيات في المؤسسة تتوالى، فبعد أن تمت تنحية مجموعة من الخبراء والإداريين في المؤسسة، وبعد أن صدر قرار حل الجمعية المهنية السورية لتقانات المعلومات والاتصالات (بيكتا) بإجراء (غير قانوني)، فاجأتنا مجموعة من التسريبات الإعلامية التي بدأت تعزف على وتر مختلف، وتروج لما هو آت، وربما يفسر ما سبق من حملات، ويضع كافة الأمور في سياق واحد لا نعتقد أنه سيكون إيجابياً على المؤسسة وعلى قطاع الاتصالات في سوريا.
إن أول مفاجأة كانت في تسريب معلومات عن تحقيق تقوم به الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، والمتعلق بتردي أداء الإنترنت، وقد توقعنا أن يصدر تكذيب للمعلومات أو أن يتم التحقيق في أسباب تسريب هذه المعلومات قبل صدور التقرير الرسمي عن التحقيق، إلا أن هذا لم يحصل، وهذا أمر مستغرب، خاصة وأن الرواية التي تم تسريبها حول ضعف أداء الإنترنت بسبب برامج تم وضعها بهدف تخريبي هي أمر غير مقنع، وإن كان مقنعاً (لمن يريد الاقتناع به)، فالحل يكمن في تعديل الإجراءات بما يضمن أن أي عمليات تعديل تكون موثقة ومضبوطة (هناك معايير عالمية لهذا الموضوع)، ولكن لا يمكن أن تترك الأمور كما هي ويتم تحميل المسؤوليات حول نظام لا أحد يضبط عملية إداراته (بعد أن تمت استباحته)، وربما علينا الخروج من أسلوب تحميل مسؤولية نظام مترد لأفراد، مما يبعد الشبهة عن الأسباب الفعلية، وبالتالي يقطع الطريق أمام المعالجات الجدية التي أشرنا إليها في حينه، فما تم تركيبه (تحت اسم مشروع البي دي إن) تم تركيبه في ظروف معينة أدت لتعديلات متعددة في المواصفات وفي الأسعار، ونجم عن ذلك ضعف تصميمي وضعف في التنفيذ وفي آليات الاستثمار، وبالتالي فالحل هو في تصحيح هذا الخلل وفق الأسس العلمية المتعارف عليها (خبرات استشارية مناسبة ومحايدة تقوم الوضع، ومن ثم جهات تقوم بالتصحيح و"نقطة من أول السطر").

لن نقف كثيراً عند هذه التفاصيل، وننتظر صدور تقرير رسمي حول هذه المواضيع (وليس تسريبات إعلامية)، فالتقارير الفنية التي تدقق هذه الأمور، يفترض أن تركز على الإجراءات المتبعة، ونقاط الضعف بها، وبالتالي تقترح إجراءات أفضل.
ومن ناحية أخرى، فقد كان من الملاحظ أن هذا التسريب قد تزامن مع تسريبات أخرى تتعلق بمقترحات للحل، تضع الإنترنت في سوريا، في النفق المظلم نفسه الذي دخلته في السنوات الماضية، ولا تعالج المشكلة، وهنا نعتقد بضرورة التأكيد على أن وجود مشكلة فنية سواء كانت (تخريب متعمد كما يدعي البعض) أو (ضعف فني كما أعتقد)، يجب أن يؤدي لحلول فنية، ولا يجب أن يؤدي لتغيير في السياسات، خاصة وأن كوادر المؤسسة الآن قد أصبحوا في موقع أضعف بعد أن فقدوا عدداً من خيرة عناصرهم خلال السنة الماضية (ومنهم الدكتور عماد صابوني عراب مشروع تحديث المؤسسة، والدكتور مهند علوش الأكثر اطلاعاً على مشاريع الخدمات الرقمية في المؤسسة، والدكتور إباء عويشق المنقول مؤخراً من جهة أخرى أساساً ليساهم في تصحيح الخلل في شبكة تبادل المعطيات)، وبالتالي نعتقد أن الفراغ الذي تم إيجاده في المؤسسة قد سمح بما يحصل الآن من تسريب للاتهامات (بطريقة غير علمية وتثير الريبة)، ويتم الضغط على عناصر المؤسسة إلى درجة أن الاجتماعات الخاصة تظهر تفاصيلها في الصحف في اليوم التالي للاجتماع، وباستخدام مريب للأسماء والوقائع، وهذا يعني أن عناصر المؤسسة لم يعودوا قادرين على حماية أنفسهم فكيف نطالبهم بحماية المصلحة العامة! وهل سنسمح باستمرار الضغوطات بهذه الطريقة الغريبة على من بقي في المؤسسة (كخط دفاع أخير).

حماية مستقبل سوريا الرقمي:
إن شبكة تبادل المعطيات هي موضوع يتجاوز بكثير النظام المركب حالياً في المؤسسة، و من هنا كان استغرابنا للضجة التي أثيرت حول مذكرة التفاهم السابقة، وذلك لعلمنا أن النظام بوضعه الحالي مازال غير قادر على تخديم بعض مزودي خدمة الإنترنت (محدودي عدد الزبائن)، وبالتالي فعملية تصحيح مشكلات إدارة واستثمار النظام الحالي ليست امتيازاً يمكن أن يتم الخلاف حوله، ولكن الآن يبدو أنه هناك من يدمج بشكل متعمد بين تصحيح الخلل ومشاريع التوسع، وبين مشاريع التوسع وآليات الاستثمار (ومن هنا ربما كان حوار الطرشان في المرحلة الماضية، فما حصل حتى الآن ربما كان جزءاً من سيناريو أوسع استخدمت فيه مذكرة التفاهم كمنصة انقضاض ليس أكثر، وربما هذا ما يبرر الحديث عن عقد وهمي في حينه)، وهكذا فما يدور الحديث حوله لم يعد له علاقة بالتجهيزات المركبة حالياً في المؤسسة، بقدر ما هو حقوق نقل المعطيات في سوريا وطرق إدارتها واستثمارها، ويصل إلى الخدمات المضافة في مجال شبكة الإنترنت، وربما يكون أهمها حالياً (من وجهة نظر استثمارية) هو موضوع الصوت عبر الإنترنت (Voice over IP).

الصراع حول نقل الصوت عبر الإنترنت:
رغم أنني ومن وجهة نظر فنية لا أرى أن خدمة نقل الصوت عبر الإنترنت هي بتلك الأهمية، إذ أنه هناك خدمات أخرى أكثر أهمية، ولكن لا يمكننا إنكار أنها الأكثر جدوى، والأكثر استقطاباً للاستثمارات (والأكثر ربحية على المستوى الدولي)، وذلك كون الاتصالات عبر الإنترنت من المتوقع أن تشكل نسبة كبيرة جداً من الاتصالات الدولية والقطرية والمحلية خلال بضع سنوات، ولكننا نخشى أن يؤدي الصراع حولها لمنع (أو كبح) تقديم خدمات أخرى لا تقل أهمية عنها (أو خدمات مركبة عليها)، وربما يذكرني الصراع على هذه الخدمة بما حصل حينما قررت سوريا استيراد سيارات للمواطنين في عام 1992، وكيف حصل صراع مشابه، انتهى بتوجيه (أعتقد أنه كان ذا بعد استراتيجي) تمثل في تحويل الصراع إلى تنافس، وذلك عبر نقل القرار من الحكومة إلى المواطن، وأعتقد أن الحل الآن يجب أن يكون مشابهاً، حيث يجب أن يفتح موضوع تقديم هذه الخدمة للجميع (وفق معايير موحدة)، وعندها يؤدي التنافس لتطوير خدمة نقل الصوت عبر الإنترنت، وجذب استثمارات لتقديم خدمات أخرى في هذا المجال (مراكز الاتصالات call centers - تطوير البرمجيات Software outsourcing– الخدمات الحكومية – تزويد الخدمات البرمجية عبر الإنترنت ASP- وغيرها)، وعندها يتحول الأمر من صراع على احتكار الخدمة إلى تنافس على تقديمها بالجودة والسعر المناسبين.
أما فيما يتعلق بطريقة تخفيف العبء الحالي عن العاملين في المؤسسة، فأعتقد بضرورة تشكيل لجنة توجيهية لسياسات تبادل المعطيات الرقمية في سوريا تشارك بها الجهات التالية المعنية بتحول سوريا إلى الاقتصاد الرقمي ( وذلك إلى أن يتم تشكيل مجلس ناظم لقطاع الاتصالات):

 هيئة تخطيط الدولة.
 وزارة الاقتصاد والتجارة.
 وزارة الصناعة.
 الجمعية العلمية السورية للمعلوماتية.
 غرفتي الصناعة والتجارة.
وذلك بالإضافة لممثلين عن المؤسسة العامة للاتصالات كونها الجهة المشغلة للبنية التحتية، والتي ستقوم بتنفيذ السياسات التي سيتم إقرارها.

وفي الختام نود التوضيح بأن شبكة تبادل المعطيات الرقمية ستكون وسيلة تقديم الخدمات الحكومية الرقمية من جهة، والخدمات الخاصة الرقمية من جهة أخرى، وبالتالي فإن اتخاذ قرار خاطئ في هذا المجال (كما يتم الترويج له) سيكون بداية لإغلاق المؤسسة العامة للاتصالات وتحويلها (خلال بضع سنوات) إلى مديرية جباية ضريبية لا تحوي أكثر من بضعة موظفين، ربما يمكن إتباعهم بوزارة المالية، ولهذا فيجب أن يعلم الجميع أن مثل هذا القرار الاستراتيجي لم يصدر بعد (ولا أعتقد أنه سيصدر)، وبالتالي فتنفيذه عبر الطرق الفنية والقانونية والإدارية والإعلامية لن يجدي نفعاً.