ثلاثة تقارير، للصليب الاحمر، واوكسفام، ومجموعة دراسات اكسفورد، ملخصها: ان بريطانيا لم يكن لها ان تشارك في اسقاط ديكتاتورية صدام حسين؛ ويجب ان تتخلى عن برنامجها النووي؛ وتطبع العلاقات مع دول تدعم الإرهاب الدولي. بمعنى آخر، يدعو كتاب التقارير، بريطانيا ان تتخلى عن دورها التاريخي كقوة دولية لها مسؤوليات حول العالم تجاه الأصدقاء والحلفاء، وتتساهل مع ديكتاتوريات تفتك بشعوبها وتهدد الجيران، وتستخدم الارهاب لتحقيق اهداف غير مشروعة.

التقارير ذكرتني بفكاهة تبادلتها مرة مع الزميل طارق الحميد، بأن خراف العيد لو كسبت حق التصويت، فستدعو لقانون يستثنيها من الالتزام بعيد الاضحى.

اوكسفام عارضت حرب الاطاحة بصدام منذ البداية، فليس مفاجأة ان تؤدي ادوات التحليل المتاحة لديها لاستخلاص ان العراق كان سببا في انكماش نفوذ بريطانيا لدرجة أننا لم نعد قادرين على اتخاذ اجراءات عملية لوضع حد لمأساة كدارفور، التي يطالب التقرير نفسه بحلها بتدخل بريطانيا في السودان، وفي زيمبابوي لوضع حد لديكتاتورية روبرت موغابي. وتسوق اوكسفام دعم 67% من البريطانيين للتدخل المباشر في امثلة كالحالتين.

تقرير اللجنة الدولية للصليب الاحمر يشير للأخطار التي تهدد العراقيين بسبب تدهور المستوى الأمني. التقرير الثالث، لمجموعة دراسات اكسفورد اليسارية، يستخلص ان تجديد بريطانيا برنامج الردع النووي «سيبعث برسالة خاطئة حول العالم!» ولو كان كاتب التقرير، البروفيسور في دراسات السلام ونزع السلاح، استخلص غير ذلك، لكان مثل خروف عيد يصوت لتكرار عيد الاضحى شهريا!

المؤلفون يرتكبون خطأ تاريخيا في حق الشعوب التي لا تستطيع، بدون دعم خارجي، الفكاك من الديكتاتورية ، باستخلاصهم ان خيار رئيس الوزراء توني بلير، بعد 11 سبتمبر بالمشاركة في تحالف تحرير افغانستان من الطالبان، وإسقاط نظام صدام يقلص من نفوذ بريطانيا حول العالم. والعكس هو الصحيح لان هذه المشاركة لم تزد من نفوذ بريطانيا بسبب تقاربها مع واشنطن فحسب، بل مكنتها، في كثير من المناسبات من تصحيح مسار السياسة الامريكية بما يفيد السلام العالمي، واصدقائها التاريخيين.

فوجئت إدارة الرئيس جورج بوش عام 1990 بعدوان صدام على الكويت وتهديد بلدان الخليج ، لكن رئيسة الوزراء مارجريت ثاتشر بادرت بتجميد ارصدة العراق، ودفعت واشنطن لارسال القوات وتولت الدبلوماسية البريطانية حشد التحالف وتأمين قرارات مجلس الامن. وبعد تحرير الكويت طورت الدبلوماسية مؤتمر مدريد للسلام مما فتح الباب لاتفاقيات السلام الاسرائيلية الفلسطينية.

ويصعب تصور تدخل ادارة الرئيس بيل كلينتون في البلقان وتأمين استقلال مسلمي البوسنة في اتفاقيات دايتون عام 1995 من دون الدور البريطاني، في اطار العلاقة الاستراتيجية التاريخية بين الامتين.

ومنذ إعلان رئيس الوزراء بلير «مبدأ مسؤولية المجتمع الدولي» في محاضرة شيكاغو عام 1999، عن مسؤولية التدخل لصالح الشعوب ضد الديكتاتوريات، حاولت بريطانيا رغم تواضع الامكانيات الالتزام بالمبدأ في سياستها الخارجية. اقنع بلير الامريكيين بكسر طوق الانعزالية التي فضلها الجمهوريون في البداية. وإقناع رجل كالرئيس الحالي جورج بوش، ليس بالامر الهين، لافتقاره لمهارات ومعلومات محام بارع كبلير، ولشدة نفوذ المحافظين الجدد، الذين يشككون في قدرة وجدوى الامم المتحدة، والمثال الهجوم الشديد الذي يشنه الان جون بولتون، سفير امريكا السابق في الامم المتحدة على السياسة البريطانية وعلى البحرية الملكية، لانها اختارت دبلوماسية الصبر الهادئة على المواجهة المسلحة التي دعا إليها في أزمة الرهائن البريطانيين الذين احتجزتهم ايران لاسبوعين وانتهت دون اراقة دماء.

لعبت بريطانيا دورا محوريا عام 1999 في تدخل الناتو لصالح مسلمي كوسوفو ما اسهم في تحريرهم والصرب وشعب الجبل الاسود من ديكتاتورية سلوبودان ميلوسوفيتش.

وبالطبع لا يمكن اعتبار العراق اليوم نجاحا كاملا، لكن يجب تذكر مسؤولية من اداروا ظهورهم للعراقيين عندما نكل صدام بهم، والدور السلبي للأوربيين، خاصة فرنسا، الخصم التاريخي اللدود للسياسة البريطانية، في عرقلة التوصل لاجماع دولي واحكام الحصار على صدام، طمعا في عقود تجارية معه؛ وهذا الاجماع كان سينجز مهمة تحقيق الاستقرار في العراق في فترة وجيزة.

تاريخيا لعب اليسار دوره، احيانا بسبب مثاليات غير واقعية، وغالبا بسبب التأييد الاعمى لمصالح الشيوعية الدولية قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، دائما في عهد الحكومات العمالية، في العمل على تقليص الدور الاستراتيجي. فافتقار البحرية الملكية مثلا لزوارق ضحلة الغاطس Shallow draft boats والأعداد الكافية من طائرات هليكوبتر سي كينج، واللينكس، بسبب انقاص وزير مالية العمال غوردون براون للميزانية، هي التي تركت البحارة البريطانيين بلا حماية فريسة للحرس الثوري الإيراني.

والتاريخ يكرر نفسه. ففي عام 1969، بعد تخفيض الجنيه الاسترليني اتبعت حكومة هارولد ويلسون العمالية سياسة اقتصادية واجتماعية اعتبرها الوزراء اليساريون كتوني بن وزير التكنولوجيا، وباربرا كاسيل وزيرة العمل، تخليا عن المبادئ الاشتراكية، فقدم ويلسون ووزير دفاعه دينيس هيلي «تنازلا سياسيا» لليسار بتصفية الإرث الإمبراطوري الذي يمقتانه، وانهاء الالتزامات العسكرية شرق السويس والتخلي عن الحلفاء العرب الذين نظر اليسار الى صداقتهم لبريطانيا كجزء من هذا الارث.

ونصح الاصدقاء سواء في المنطقة، مثل المرحومين الشيخ كمال ادهم مؤسس مخابرات المملكة السعودية والشيخ زايد بن سلطان ال نهيان، او الخبراء البريطانيين كالسير جيمس كريج، سفير بريطانيا السابق في الرياض، ولاحقه المرحوم السير دافيد غوربوث، والمرحوم السير مايكل وير، سفير بريطانيا السابق في القاهرة، محذرين من حماقة هذه السياسة. لكن رفض هيلي وقتها عرض دول الخليج بالمساهمة ماليا في نفقات بقاء البحرية الملكية الحليفة في مياه الخليج.

واستعدادا لوابل من اتهامات المتشنجين من الثالوث غير المقدس (الشيوعيين والقومجية والاسلامويين) نذكرهم بان قادة الخليج وقتها وضعوا نصب اعينهم مصالح شعوبهم التي تعرضت لتهديدات كبيرة من ثلاث جهات، ولم تكن لدى هذه البلدان قوة عسكرية تذكر.

التهديدات الفارسية من الشرق والشاه الراحل يريد بسط سيطرته على الخليج (احتل جزر الامارات فور سحب البحرية الملكية، ولم تعدها الجمهورية الاسلامية او حتى تقبل التحكيم الدولي). ومن الشمال اتت التهديدات الإسرائيلية، فبلدان الخليج قدمت المال والملجأ آلامن والدعم السياسي والدبلوماسي للفلسطينيين الذين أسسوا منظماتهم الفدائية في الخليج. ومن الغرب جاءت التهديدات الثورجية من الرئيس الراحل الكولونيل جمال عبد الناصر، ضد الدول والملكيات المستقرة التي اسماها «الرجعية»، وهددها من جنوب الجزيرة (بعد انقلاب اليمن) ومن الشمال عن طريق الانقلابات العسكرية التي قلدت انقلابه، ودعمت موسكو تهديداتهم كجزء من صراع الحرب الباردة. ولو لم يخضع ويلسون وهيلي لضغوط اليسار، وحافظا على النفوذ الدولي والعسكري لبريطانيا، واتبعا نصيحة الحلفاء العرب والدبلوماسيين المحترفين، لكانت المنطقة اليوم أكثر استقرارا وأمنا وتجنبت كثيرا من والكوارث التي لا يعترف اليسار حتى اليوم بمسؤوليته عنها، والخطورة ان تفرز التقارير سياسات تكرر أخطاء 1969.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)