جاء إلى بيروت خلال الأسبوع المنصرم ضيفان كبيران بين المترددين الكثر على العاصمة اللبنانية بعد الأزمة السياسية، وبخاصةٍ الأوروبيين. أول الضيفين مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون القانونية نيكولا ميشال، والضيف الثاني السيد سلطانوف نائب وزير الخارجية الروسي. ومهمة الضيفين في الظاهر واحدةٌ أو متشابهة: البحث مع الأطراف اللبنانية بشأن تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي بإنشاء محكمة ذات طابع دولي لمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري.

مجلس الأمن كان قد طلب من الحكومة اللبنانية تمرير مشروع نظام المحكمة من خلال المؤسسات الدستورية اللبنانية، للتمكُّن من عقد اتفاقيةٍ معها على المحكمة. لكنّ الوزراء الشيعة انسحبوا من الحكومة اللبنانية، ورئيس الجمهورية اعترض، ورئيس مجلس النواب رفض عقد جلسةٍ لمجلس النواب لمناقشة مشروع قانون المحكمة الذي تقدمت به الحكومة إليه. ومن أجل ذلك تعاظمت الأزمة بين رئيس الحكومة وفريق الأكثرية النيابية من جهة، و"حزب الله" وحركة "أمل" وأنصار سوريا من جهةٍ ثانية. وعندما حاول أنصار تلك الجهات الزحف على السراي الحكومي قبل أسابيع، واعتصموا بوسط بيروت، بلغت الأزمة حدود الكارثة والحرب الداخلية، وما هدّأَتْها غير الاتصالات السعودية/ الإيرانية، دون أن تنحلَّ أي مشكلة، ودون أن ينتهي الاعتصام. وقبل أسبوعين، ومع تكرار استفهام مجلس الأمن من الحكومة عمّا بلغته جهودها في إقرار قانون المحكمة من خلال المؤسسات اللبنانية، أرسلت الأكثرية النيابية بياناً إلى مجلس الأمن وقّعه سبعون نائباً يطلب أن يُقرَّ مجلس الأمن القانون بوسائله بعد أن تعذّر على مجلس النواب اللبناني إقراره لمنع نبيه بري لهم من الاجتماع.

وتلا ذلك إرسال رسالة إلى مجلس الأمن من رئيس الحكومة اللبنانية بنفس المعنى. وأجرى مجلس الأمن جلسةً تشاورية ثم قرر الأمين العام للأمم المتحدة إرسال مساعده للشؤون القانونية ليوضح للمعارضين والموالين الإشكاليات والمشكلات، وضرورة إقرار القانون في لبنان، أو سيلجأ مجلس الأمن لإقراره تحت (الفصل السابع)، أي من دون العودة إلى لبنان. وهكذا فقد أتى نائب وزير الخارجية الروسي إلى لبنان وسوريا في هذا السياق، لكنْ ليس لنفس الأسباب والدوافع.

جاء سلطانوف ليُطْلِعَ المسؤولين والمعارضين في لبنان، والمسؤولين السوريين على الطبيعة الجديدة للترتيبات الدولية، والمقاربات الجديدة للنظام الدولي. فالنظام الدوليُّ العادل والمتوازن كان قيامُهُ منتظراً بعد الحرب الثانية وصدور ميثاق الأمم المتحدة. لكنّ الحرب الباردة بين الجبّارين أجّلتْه بل عطّلتْه. وعاد الرئيس بوش الأب إلى التبشير به بعد نهاية الحرب الباردة، وإخراج العراق من الكويت. لكنْ مرةً أُخرى قصد الرئيس بوش أو عنى غير ما قال. فقد اعتبر الأميركيون أنّهم انتصروا بمفردهم في الحرب، وتراوحوا بين اتجاهين: قيادة العالم بالاتجاه الذي يريدون، أو الانفصال عن العالم، وتنفيذ ما يعتبرونه صَوناً للمصالح الوطنية الأميركية دون أي اعتبارٍ آخَر. وانقضى زُهاء العقد ونصف العقد على هذه المراوحة، خاض خلالها الأميركيون حروباً وصراعات، وأغضبوا حلفاءهم الأوروبيين بسياسات التفرد، وتجاهلوا روسيا تماماً.

ثم بدأت أمائرُ الفشل في هذه الاستراتيجية تظهر في عام 2005، إلى أن خسر بوش الابن وحزبه الانتخابات لمجلسي الكونغرس أواخر عام 2006، وما عاد بإمكانه متابعة سياسات التفرد حتى لو أراد. وهكذا ومع زوال "المحافظين الجدد" من الإدارة البوشية تحركت كوندوليزا رايس باتجاه أوروبا وروسيا الغاضبتين، وهي تحاول استعادة التحالف مع أوروبا في نطاق الأطلسي وإلى جانبه، واستعادة الشراكة مع روسيا إنما على أُسُسٍ غير الأُسُس التعطيلية للحرب الباردة. فقُطب الدائرة في التطورات الجديدة في عام 2006 التركيز على تفعيل المؤسَّسات الدولية، واعتبارها بيئةً للحوار والتوافُق، والتكاتُف من أجل إقرار ما يجري الاتفاقُ حوله أو الإجماع عليه، وليس تعطيله أو الاحتيال عليه. وهذا لا يعني أنّ أوروبا اتفقت مع أميركا على كل شيء (وبخاصةٍ ألمانيا زعيمة أوروبا اليوم وللأعوام القادمة)، كما لا يعني أنّ التجاذُبات بين الولايات المتحدة وروسيا قد انتهت. إذ عندهما مثلاً الآن الخلاف حول البوسنة، والخلاف حول الصواريخ التي تريد الولايات المتحدة نشرها في بولندا وتشيكيا على مقربةٍ من روسيا.

بل معناه الاتفاق على أساس للنظام الدولي الجديد أو القديم هو اعتبار مجلس الأمن بيئةً للقرار والتوافُق، والجدية في ذلك إثباتاً للشراكة والتعددية والتوازُن من جهة، وإعادةً للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والعالم بعد الاضطراب الذي تسبّبتْ فيه التصرفات العشوائية والعدوانية للولايات المتحدة منذ عام 1991 وحتى اليوم.

وأَخْذاً لهذه الخلفية بالاعتبار، تظهر منطقية تصرفات أوروبا وروسيا في الأشهر الأخيرة، وعلى حدٍ سواء. ألمانيا تحركت عبر السيدة ميركل نحو المنطقة لتدعم اللجنة الرُّباعية في الشأن الفلسطيني، ولتشترع سياسةً متوازنةً بين العرب وإسرائيل، ولتهتمّ بالاستقرار في لبنان. وروسيا تحركت باتجاه إيران وسوريا (وقد كانت وما تزال سقفها الاستراتيجي).

لإيران أوضحت روسيا أنها لا تقبل مُحاصرتها، ولا شنَّ الحرب عليها؛ لكنْ عليها أن تنسى النوويَّ والتخصيبَ المؤدّيَ إليه. ولسوريا أوضحت روسيا مراراً و والآن سلطانوف أنه ليس من حقّ أحدٍ التدخل في الشأن اللبناني الداخلي، وأنّ قرارات مجلس الأمن صائرةٌ إلى تنفيذ، ولن تحولَ دونها اضطراباتٌ مصنوعةٌ أو مصطَنَعة. وللأطراف اللبنانيين أعرب سلطانوف عن تخوفه من الانقسام الداخلي اللبناني، وتفضيله إقرار قانون المحكمة من خلال المؤسسات الدستورية، لأنّ قرار مجلس الأمن لابد أن ينفَّذ بغضّ النظر عن الطريقة؛ والأفضل أن يبقى ذلك بالتعاوُن مع السلطات والمؤسسات اللبنانية، وليس خارج السياق الوطني اللبناني، والعربي.

لقد كان المنتظر أن تكونَ إيران هي التي تقودُ الوساطات بين سوريا ولبنان، وبين الشيعة والسُّنة، بعد تواصُلها مع السعودية، وبسبب نفوذها على سوريا و"حزب الله". لكنّ ما حصل أنّ إيران استُدرجت لتُصبح طرفاً في كلّ النزاعات الدائرة بالمنطقة، كأنما هي "حماس" أو "حزب الله" أو "المجلس الأعلى" أو "القيادة العامة". وقد اعتقد الإيرانيون والسوريون أنهم يضعون الورقة الروسية في جيوبهم، بسبب الخلاف الروسي مع الولايات المتحدة. ومع ظهور مواقف روسيا المخالفة لذلك خلال عام 2006 والشهور الأولى من عام 2007، انقلبوا للتنديد بروسيا وصفقاتها مع الولايات المتحدة، والطبيعة "الرأسمالية والإمبريالية" الفاسدة والمستغلة للطبقة الجديدة الحاكمة بروسيا! وفي الحقيقة ما كانت روسيا أيام الاتحاد السوفييتي فاعَل خيرٍ نزيهٍ في العلاقات الدولية، ولا هي اليومَ "عميلة للإمبريالية الأميركية". إنما روسيا اليومَ كما كانت من قبل شريكٌ في النظام الدولي، لكنْ على أُسُسٍ مختلفةٍ عن أُسُس الحرب الباردة. فيومَها كانت روسيا تعطّلُ كلَّ ما تحاولُ الولاياتُ المتحدة إقراره، وتبادلها الولايات المتحدة الشيء نفسه؛ ولذلك فقد تجاهلت كلٌّ منهما المؤسسات الدولية، وعمدتا للتدخل المباشر في العالم الثالث، وللتفاوُض المباشر عندما تتفاقم الصراعات. وقد حصل الأمرُ ذاتُه خلال العقد ونصف العقد الأخير، وخسر الطرفان؛ وإن تكن الولاياتُ المتحدةُ هي الأكثر خسارة. وها هما يجرّبان الآن في الشرق الأوسط وفي غيره، أن يجعلا من مجلس الأمن، حاضنةً لاتفاقياتٍ وتقارُبات، وحاضنةً لاستقرار هدَّدته كثيراً وفي آسيا العربية وإفريقيا والبلقان وأميركا اللاتينية، أحداث السنوات الأخيرة. وتجربةُ الأزمة اللبنانية، والقرارات الدولية بشأنها، أحد مواطن اختبار البيئة الجديدة للنظام الدولي.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)