ما ان ظهرت قناة الجزيرة وحصدت بعض النجاح حتى فسرت نفسها كما فسرها الآخرون وتوجسوا منها، على انها وسيلة ضغط، فلا الحياد الذي ادعته كان شفافا، ولا لاخرون (هنا الحكومات والاحزاب العربية) تقبلوا انحيازها على اساس أن حياد الاعلام غاية لا تدرك، وتوالى افتتاح الفضائيات (الناجحة) على نسق الجزيرة ولكل معركته ولكل زبائنه، وبقي المواطن رهن التشويق والمعارك المستترة بين القوى الفاغلة على الساحة العربية.
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو ما الذي تغير في جوهر الرسالة الاعلامية الناطقة بالعربية؟ وهل انطلقت هذه الرسالة من عقد اخلاقي بين المشاهد والمحطات؟ ام انطلقت من اولويات تمويلية ومهارات اعلامية ماكرة أو بدائية؟

الواضح تماما ان كل المحطات الاخبارية العربية حكومية كانت اما (قطاع خاص) تخضع للاعتبار الثاني، فالتهويلات من نوع ان المواطن العربي في المشرق مثلا بدأ يسمع بأخيه المواطن في المغرب، او ان الاخبار تصل طازجة، او ان المؤامرات تكتشف في الوقت المناسب (ولكنها تنفذ في آخر المطاف كالعادة) ... كلها تهويمات نظرية ومن الباب الخيري، اذ انتقلت معلوماتنا في الحيز المكاني الى البوسنة والشيشان، وفي الحيز الموضوعي الى غياب الارتقاء الحقوقي الذي يفترض ان تقدمه ادوات حداثية كالفضائيات ، ولا طالت الاولويات التراثية في التفكير العمومي ، حيث حولت المعلومات الفضائية الواقع العربي الى لعبة كلمات متقاطعة باردة وعبثية لا طائل منها طالما لم تستطع عبر بنيتها المكبلة تقديم قيمة للرأي المواطني ، لنحصل بعد عشر سنوات من ممارسة الاعلام الفضائي على حرب طائفية في العراق ومذابح في الجزائر واقتتال اخوة في فلسطين وارهاصات حرب اهلية في لبنان ...اذا ماذا قدمت هذه الفضائيات من وعي بناء على سهولة وصولها الى الجماهير ، أن يسمع المشرق بأنباء الغرب (يا للفرح)، أم شددت من اواصر الاخوة بين الدارفوريين والسودانيين ...أم ماذا ؟؟؟

اذا كانت الاعمال بالنيات فأعتقد ان نوايا الفضائيات العربية لم تكن موجهة لخدمة القيم العليا للإنسان / المواطن بل اتجهت لخدمة دواعي تأسيسها واستمرارها، واذا كانت النيات في الاعمال فانها قدمت طبقا دسما من السموم لتجعل منه اكثر خضوعا للمعلومة ، وأكثر بعدا عن المعرفة.