يعود هذا السؤال إلى الواجهة من جديد كلـما قرر فصيل وحده دون سواه أن يخرق الإجماع الوطني الفلسطيني في الوقت الذي يلائمه وبالطريقة التي يرتئيها مناسبة، بحجة ملكيته التمثيل الأوحد لـمصلحة الشعب وتجسيده للوحي الالهي لتنفيذ هذه الـمهمة رغم تعارضها مع رؤية الأغلبية من القوى والفصائل أو حتى من جموع الشعب الذي يدّعي تمثيله أو تمثيل مصالحه. يخرج علينا في كل مرة فصيل يدعي فيها أنه الأكثر معرفة بمصلحة هذا الشعب الذي يوصفه بالضعيف وغير القادر على تمثيل مصالحه بنفسه أو غير القادر على التعبير عن احتياجاته دون الاعتماد على وسيط يتجسد في ذلك الفصيل، باعتبار أن هذا الفصيل الذي قرر خرق الإجماع يدعي أنه الأكثر التصاقاً بهموم الشعب والـمخلص الأوحد لقضاياه. وعليه، اعتماداً على تحليلاته الخاصة ومن خلال اعتباراته التي تحرك خطواته ودون العودة إلى الشعب الفلسطيني صاحب الكلـمة الأخيرة الذي يدعي تمثيله، يأتي ليطرح نفسه ممثلاً لكل الشعب، بينما يقلل في الوقت ذاته من دور الفصائل الأخرى التي لا تشاركه هذا الخرق في هذه الـمرة، ما دامت لا تشترك معه في الرؤية والـمصلحة الذاتية.

هذا القرار الصادر عن فصيل ما، يشكل قي كل مرة يحلو له أن يخطف الوضع الفلسطيني برمته ويهدد به مصير كل الشعب، إشكالية كبيرة تسيطر على عقلية هؤلاء الذين يقودون الجناح العسكري لهذا الفصيل أو ذاك، على اعتبار أن تفويضهم هو أوتوماتيكي يملكونه في جيوبهم ولا يحتاجون إلاّ إلى إخراجه في الوقت الذي يرتأونه مناسباً دون الحاجة إلى تقديم تبريرات لأحد على اعتبار أن سيادة القانون غير موجودة ولا تنطبق عليهم، وأن الحكومة أصلاً لا تملك ما يملكونه من تفويض سماوي للتدخل متى يشاؤون، لان لديهم مهمة تتمثل في إنقاذ الشعب الفلسطيني من أخطاء الآخرين. هذا الوضع الـمتسيب على الأرض قد سمح لهذه الـمجموعات أن تفرض رؤيتها بالقوة على بقية الشعب وقواه السياسية، ضمن خارطة حزبية متعددة وفي أغلبيتها متورطة بشكل أو بآخر بهذا الخرق أو بغيره، وضمن وضع حكومي مستضعف يعكس جوانب محرجة له في كل مرة يتم الخرق على أيدي الأجنحة العسكرية للفصائل التي تشكل هذه الحكومة أو تلك. لقد مثلت التبادلية في لعب الأدوار بين الأجنحة العسكرية أو الـمليشيات الـمسلحة للفصائل أو تلك الـمجموعات الـمنشقة عنها أو الـمليشيات العائلية في خرق الإجماع الوطني بهدف إعلان حالة الحرب أو الدعوة إليها أو إعلان انهيار الهدنة إنما يعكس تورطاً مباشراً وشمولياً لغالبية تلك الأجنحة وعبرها فصائلها السياسية. لا يتوقع من مراقب عاقل أن يقبل أي ادعاء قد يأتي من هذا الفصيل أو ذاك أو من هذا الجناح العسكري أو ذاك أن لا علاقة مباشرة بين الجناح العسكري والجناح السياسي لأي فصيل يعمل على الأرض الفلسطينية. رغم الادعاءات التي صدرت عن بعضها لأسباب خاصة هدفها حماية قياداتها السياسية من مسؤولية ما تقوم به أجنحتها العسكرية وإبعادها عن طائل الاغتيال الإسرائيلي أو النقد الفلسطيني والعربي، فالجميع هنا ودون استثناء يعلـم تماماً مدى العلاقة بين الجناح العسكري والسياسي لأي فصيل، وطبيعة انضواء الأول تحت إمرة الثاني وجاهزية الأول لخدمة أهداف الثاني.

هكذا كانت وهكذا بقيت العلاقة الثنائية بين أجنحة الفصيل الواحد، بانتظار أن نصل في مرحلة ما من عمر العمل السياسي والبناء الحزبي في عهد الدولة إلى إمكانية الانتقال إلى الحزب الـمدني الذي لا يملك الحق في الإبقاء على أجنحته العسكرية أو حمله السلاح الذي هو احتكار الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية فقط. لا يبدو أن هذا الوضع الـمتحرك دوماً باتجاه حالة الخرق الفاضح للإجماع الوطني قد يتغير قريباً، مستفيداً من حالة الفوضى السياسية القائمة التي تغذي بشكل متواصل حالة الفوضى الأمنية والعسكرية. ومن هذا الواقع، بقيت كافة التصريحات التي صدرت عن رئيس السلطة الفلسطينية نحو سلاح واحد وقانون واحد وسلطة واحدة مجرد رغبة موجودة لديه لا يملك القدرة على تثبيتها أو فرضها، وبقيت كذلك الخروقات قائمة من قبل الأجنحة العسكرية لفصائل العمل السياسي دون رادع، لنصل إلى الوضع الذي وصلنا إليه هذا الأسبوع من تهديد مباشر باجتياح واسع لقطاع غزة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي والتي حشدت أعدادا كبيرة من الآليات والـمعدات العسكرية الأخرى استعداداً لاجتياحها القطاع. لا نقلل هنا من خطورة التصعيد العسكري الإسرائيلي الـمستمر بما فيه الأخير في الضفة الغربية، لكن، في نفس الوقت، يجب ألا نضخم من ادعاءاتنا بقدراتنا التسليحية وعتادنا العسكري الـمتفوق الذي سيدفن جنود الاحتلال وآلياته في أرض غزة، فالـمبالغة تحبط وتدفع إلى الـمزيد من الـمآسي، كما أن الاستسلام لـم يكن يوماً شعاراً رفعناه.

وعند الحديث عن قرار الحرب لا بد من التعريج على قرار السلـم ورؤية العلاقة بينهما في تقرير مصير شعب يناضل من أجل مستقبله. هذا النضال الذي طال جميعنا دون استثناء يستحق أن يبقى حقاً لنا أيضاً، لا أن يتحول إلى استئثار يملكه جناح عسكري لهذا الفصيل أو ذاك على حساب الشعب كله. وكما شاهدنا خلال الـمفاوضات الفتحاوية الحمساوية التي سيطرت على مجريات حياتنا لفترة ليست بالقليلة وعكّرت صفوتها نسبياً، أن البعض كان يرفض أن يعطي للبعض الآخر الحق في قرار السلـم دون أن يعود إلى الشعب بأكمله، رغم التفويض الـمحصور الذي قدّم للرئيس للبحث في تلك الإمكانية. هذه الاشتراطات التي وضعتها حماس أمام قرار السلـم كان يجب أن تضعها أيضاً أمام قرار الحرب، وما منعته لغيرها فيما يتعلق بقرار السلـم يجب ألا تسمحه لنفسها فيما يتعلق بقرار الحرب، فهي ليست مخولة من أحد لاتخاذ قرار الحرب قبل أن تعود إلى الـمرجعيات الرسمية والشعبية الـمتعددة، وهذا لـم يحدث عندما قررت القسام مؤخراً أن تنهي التهدئة وتعلن حرباً شعواء على قوات الاحتلال لا سابقة لها، معرّضة مصلحة الشعب الفلسطيني كلها للخطر ومعرضة للخطر كذلك ما تم التوافق عليه في مقررات مكة، خاصة بعد أن تحولت تلك الـمقررات إلى مرجع لكل الفلسطينيين وحكم بينهم، بمن فيهم كل من لـم تستهوه تلك الـمقررات أو تشمله.

لحسن الحظ كان لدينا في داخل القطاع الوفد الأمني الـمصري الذي سارع لوأد الخرق في مهده قبل أن يستفحل إلى فتنة واقتتال من جهة والى اجتياح ودمار من جهة أخرى.

القدرة الوقائية لدى الفريق الـمصري في حصر الخرق الـمقصود من قبل القسام أثبتت فاعليتها، وعليه، منع اجتياحاً إسرائيلياً مدمراً مستعملاً قدرته الاقناعية ومن ثم التهديدية في مواجهة الـمبادرين بالخرق والـمدّعين أنهم وحدهم يعرفون أين تكمن مصلحة الشعب الفلسطيني أفضل من الشعب نفسه، مع العلـم أن قدرة أصحاب الخرق على منع الاجتياح قد أثبتت عقمها في كافة الـمرات الـماضية، حيث كان الـمواطن الغزاوي وما يملك دائماً الضحية التي دفعت وستبقى تدفع الثمن لهذا التهور غير الـمدروس بعناية لـمن يدعي الـمسؤولية الوطنية. ولولا الوفد الـمصري لرأينا اليوم اجتياحاً نوعياً إسرائيلياً يأكل الأخضر واليابس أو ما تبقى منه دون أن يجد من يردعه، رغم التصريحات الطنّانة التي نسمعها دوماً عن الزلازل التي ستدك عرش إسرائيل من قبل من امتهن التصريحات الصحافية وسمح لنفسه الغلو في ما لا يقدر عليه، بينما يعرّض مصير شعب بأكمله لحقد عدو لن يتهاون في استعمال كل ما لديه من قوة عسكرية لتعليمنا درساً لن ننساه.

نعم، لقد أثبت الشعب الفلسطيني أنه قادر على الصمود والنهوض بعد كل ضربة، حتى لو كانت موجعة، وبعد كل ادعاء بتلقيننا درسا لن ننساه وثم ننساه. ومع معرفتنا بصحة هذه الـمقولة، لكن ما الـمنطق وراء أن نعرّض شعبنا لـمزيد من الـمعاناة والدمار والقتل حتى نثبت أننا ننهض بعد كل ضربة موجعة، رغم صعوبة النهوض أحياناً، وأن دروسهم لا تنفع في شيء، فحسب ادعائنا هي لا تمنع صواريخنا البدائية من الانطلاق نحو الفضاء رغم أنها لا تصيب أحداً أو تخلّف وراءها دماراً يستحق الذكر في مكان ما من وسائل الإعلام الـمختلفة.

يجب ألاّ نصل إلى وضع يصبح فيه كل مواطن، كان مسؤولاً أم غير مسؤول، كل مجموعة مسلحة تعمل للـمصلحة الوطنية أو ضدها، كل جناح عسكري أو ذراع مسلح لفصيل أو مليشيا عائلية أو تتبع فرداً ينفق عليها كمرتزقة، أن يملك قرار الحرب في فلسطين، حيث تصبح الأرض الفلسطينية وشعبها ومستقبلها عرضة لكل متهور يريد أن يلعب في ملعبها أو يتذوق من معاناة شعبها. من الذي يمنع في مثل هذه الحالة الفوضوية والـمأساوية التي تعيشها غزة أن يقدم شخص، كان مواطناً مخلصاً أم لـم يكن، على الوصول إلى من يروج لهذه السلعة وشراء عدة صواريخ جاهزة للإطلاق، على أن تكتب عليها اسم كتائبه الـمستحدثة لهذه الحالة فقط، ويتم تصوير إطلاقها مع اسم كتائبه عليها، ثم تتم صياغة بيان ويعمم على وسائل الإعلام كما يحدث عادة، لينتقل هذا الشخص الذي انفق عدة آلاف من الدولارات إلى صاحب مشروع نضالي مقاوم أو صاحب مشروع تخريبي، ويدعو عبر مشروعه هذا كنتيجة مباشرة قوات الاحتلال إلى الرد. وقبل أن تتحول الهواية إلى مهنة، وقبل أن يتحول مصير شعب إلى لعبة، وقبل أن يتحول قرار الحرب إلى أيدٍ غير مسؤولة، نتساءل حقاً متى سيقبل الكبار أن يحتكموا إلى لعبة القانون وسيادته، والى خضوعهم لـمحاكمته قبل أن يحكموا على الآخرين!.