أبوجلدة والعرميط

ياما كسّروا برانيط

أبوجلدة والعرميط بطلان شعبيان فلسطينيّان، قاوما الإنكليز، ومع من التحقوا بهما من فلاّحي فلسطين، أوقعوا بقوّات الاحتلال البريطانيّة الانتدابيّة خسائر فادحة.

لهما غنّت النسوة في الأعراس، وارتجل المنشدون الشعبيون الأهازيج، وسرت سيرتهما في كّل فلسطين، حتى باتا شخصيتين خارقتين بأعمال حدثت، يبالغ بها أحياناً.

الانتداب البريطاني حاول تشويههما، وصوّرهما كقاطعي طريق شقيين، وألصق بهما أعمالاً لا تنسجم مع شهامتهما، وأخلاقهما التي ورثاها من أسرتيهما الفلاّحيتين، ومن تدينهما الفطري، ومن تأثرهما بدعوة الشيخ عّز الدين القسّام الذي سمعاه يخطب في مسجد الاستقلال بحيفا.

فيزيائيّاً كانا شبيهي دون كيخوت وسانشو، فهما واحد نحيل قصير، وصاحبه الذي يمكن وصفه بتابعه، ضخم وطويل و..يثق بمعلمه وقائده ويسلّم له أمره .

كان اسم أبوجلدة مثار رعب لجنود الإنكليز، وكبار جنرالاتهم، وللتابعين محليّاً لهم، فهو يضرب ويختفي، ولا يترك أثراً، ولذلك زرعت عيون لمتابعته، فالعسس والمخبرون وجدوا في كل زمان ومكان، وأجّروا أنفسهم للمحتلين، والأعداء، ولكّل من يدفع لهم..هؤلاء كرههم هو وصاحبه، وترصدوهم، وسددوا لهم ضربات قاصمة، لجعلهم عبراً يعتبر بها غيرهم من عديمي الضمائر، ولمضاعفة ثقة الناس بهذين البطلين، وما يمثلانه .

وأنا صغير سمعت بقايا ذكر لهما، ثمّ بهت حضورهما وشحب في الذاكرة الجمعية الفلسطينيّة، فهما لم يكونا من أبناء العوائل الكبيرة، ولم يتركا مذكراتهما، ولم يكتب عنها سوى كلام عابر كبطلين شعبيين متواضعي الوعي والأهميّة .
من جديد أحياهما كاتب، وقاص، وصاحب تجربة عريضة هو : نجاتي صدقي، في مذكراته التي استخرجها من عتمة النسيان الأستاذ الشاعر حنا أبوحنا ،وصدرت عن مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة في بيروت عام2001 .
في السجن التقاهما نجاتي صدقي، فانظر كيف يصفهما بكلام قليل، ينصفهما، ويمسح عن سيرتهما بعض من لحق بها من تشويه متعمّد من حكّام فلسطين الإنكليز المتصهينين : تعرفنا في السجن إلى رجلين أشغلا حكومة الانتداب مدة طويلة في حرب العصابات، وهما أبوجلدة والعرميط...

لقد ألّف هذان الفلاّحان عصابة لمحاربة الدولة المنتدبة، مثل كثير من العصابات المنتشرة في البلاد، والمؤلفة غالباً من الفلاحين الذين باتوا بلا أرض أو عمل .

لقد برز هذا الثائران إثر ثورة 1930، وألّفا عصابة اتخذت من الجبال مجالاً لأعمالها، واصطدمت مع القوات البريطانيّة في غير معركة، وقد أراد زعيمها أبوجلدة، وهو رجل نحيل الجسم، قصير القامة، أن يبعد عنه وعن رجاله تهمة الشقاوة، فارتدى لباساً عسكريّاً، وقد زيّن كتفيه بسيفين وثلاثة نجوم ، وجّر سيفاً صقيلاً طويلا له يد مذهّبة.
وماذا عن العرميط الصديق والتابع المخلص الأمين لأبي جلدة ؟!

يصفه نجاتي صدقي كما عرفه في السجن : رجل قوي البنية، شديد البأس، عيّنه أبوجلدة نائباً له مطلق الصلاحيات .
نصف صفحة من مذكرات نجاتي صدقي حفظت ذكر ومواصفات هذين البطلين الشعبيين، لكن ...

لكن الشاعر الكبير هارون هاشم رشيد، رأى أن يعيد هذين البطلين إلى الحياة بعد أن ماتا وشبعا موتاً في عمل أدبي ينصفهما ويصون ذكرهما للأجيال، فألّف عنهما كتاباً عنوانه ( أبو جلدة والعرميط ) وتحت العنوان بخّط ناعم : ياما كسّرا برانيط، وبخّط عمودي نقرأ كلماته من فوق لتحت : حكاية حقيقيّة من بطولات المقاومة الشعبيّة الفلسطينيّة .( صدر عن دار مجدلاوي في عمّان).
أمّا البرانيط فهي جمع برنيطة، وهي غطاء الرأس الذي كان يستعمله الجنود البريطانيون، وتكسير البرانيط هو كناية عن تكسير الرؤوس، وهذا العنوان هو مطلع أهزوجة شعبيّة فلسطينيّة سادت في الثلاثينات، وتناقلتها أجيال الأجداد والآباء، وبهتت أصداؤها، وها هوذا صاحب ( سنرجع يوماً إلى حيّنا) التي شَدَتْ بها الفنّانة الكبيرة فيروز، يعيدها للذاكرة ، فكفاح عرب فلسطين لم ينقطع على مدى القرن العشرين وهو مفتوح على عقود هذا القرن الحادي والعشرين، حتى يعود الفلسطينيون إلى وطنهم، وتعود فلسطين لأهلها الأوفياء الصابرين المتشبثين بحقّهم.
يصف كتابه بالحكاية هارون، وينأى بنفسه عن وصف ما يكتبه بالرواية، لأنه معني بتدوين نّص أدبي دون تصنيف محدد، يحفظ فصلاً من فصول نضال الشعب الفسطيني، ويعيد ذكرى نفر من أبطاله، أولئك الذين لم يتيسر لهم كتابة تجاربهم، وتقديم شهاداتهم .

أبوجلدة الذي فرّ من خدمة الدول العثمانيّة، يبدو بالفطرة عاشقاً للحريّة، وقمم الجبال، ناقماً على الظلم. اسمه أحمد المحمود من قرية (طّمون)، وهي من قرى نابلس . اشتغل في ميناء حيفا عتّالاً، وهناك تعرّف بأوفى صحبه، ومنهم اختار رجاله للثورة على الانتداب البريطاني الذي ما أن هيمن على فلسطين حتى بدأت عمليات تسريب اليهود إلى فلسطين تتزايد باضطراد، بالترافق مع تسريب الأرض لهم، وتدمير حياة الفلاحين الفلسطينيين بالضرائب الباهظة.
تعرّف أبوجلدة بالرجل المتعلّم المثقّف سليمان العامري وتأثّر به، واستمع لخطب الشيخ عز الدين القسّام في مسجد الاستقلال، وعايش مأساة أهالي قرى مرج بن عامر والأرض التي باعها إقطاعيون من خارج فلسطين، وطرد منها سكّانها، فحقد على السماسرة، وعلى الصهاينة، وازداد كرهه للإنكليز أصل البلاء في كّل ما يصيب أهالي فلسطين، وبخّاصة الفلاحين .

لم ترحم عصابة(أبوجلدة) الفلسطينيين الذين اثروا في العهد العثماني، والذين أرهقوا الفلاّحين حتى عجزوا عن سداد ديونهم واضطرّوهم للتنازل عن أرضهم .

هؤلاء وضعهم أبوجلدة ورجاله في صّف الإنكليز والصهاينة، ووجهوا لهم ضربات قاسية في منطقة (جنين) خّاصةً، ووصلوا إلى ممتلكاتهم، وإليهم شخصيّاً، رغم حماية مستر طومسون رئيس شرطة جنين لهم .

الشاعر الكبير هارون هاشم رشيد ذكّر في هذا العمل الأدبي الحكائي السلس والممتع، القريب من القّص الشفوي ،بالمعارك التي خاضتها عصابة (أبوجلدة)، ودهاء الرجل في التخطيط للكمائن المباغتة للقوات البريطانية .
الإنكليز أطلقوا اسم (طريق الحراميّة)، على طريق حيفا / مرج بن عامر، الذي اختاره أبوجلدة لنشاطه ورجاله، مستغلاًّ منعة جبال المنطقة بكهوفها ومغاورها، وباغت القوّات البريطانية بالكمائن واستولى على بعض أسلحتها ...
الحرامية هم أصحاب البلاد الذين يثورون لنيل حريّتهم، وطرد محتليهم القادمين من وراء البحار، الذين يمنحون المتسربين اليهود الذين تستجلبهم الحركة الصهيونيّة بالتواطؤ مع الانتداب البريطاني ليحتلّوا بلاداً ليست لهم!
هؤلاء حراميّة وعصاة وأشقياء!و.. من يقاومون اليوم هم إرهابيون! ..هذا هو منطق بريطانيا الاستعمارية، وأمريكا الإمبرياليّة، وكلتاهما سبب مصائب فلسطين وشعبها ..وهذا ما لا يجب أن يغيب عنا كعرب.

في مذكرات نجاتي صدقي، يخبرنا أن (العرميط) طلب من أمّه أن تحضر معها خنجراً في الزيارة القادمة لأنه سيضعه معه في قبره، وسيذبح به الخائن الذي وشى به!

وفي خاتمة الحكاية كما رواها الأستاذ هارون، مشهد شنق البطل أبوجلدة الذي تقدّم إلى حبل المشنقة غير هيّاب ولا وجل ...

وتكون آخر كلماته : بخاطركم يا شباب .. فلسطين أمانة في أعناقكم ..إيّاكم أن تفرطوا في حبّة رمل من أرض فلسطين...

وحتى لا يكون تفريط ، ولا تنسى الذاكرة، كتب الشاعر هارون هاشم رشيد الحكاية، بالضبط في هذا الوقت الذي تشتّد فيه المؤامرات على مقاومة عرب فلسطين، وعلى حّق العودة إلى فلسطين...